الحالة اللبنانية: أمثلة عن الهدر والفساد: الخسارة على المستوى البيئي والاجتماعي

الحلقة الخامسة  والسادسة (5/6)+(6/6)

 

بعد أن عرضنا عن استنزاف الموارد في الحلقة الرابعة من سلسلة المقالات حول «الحالة اللبنانية»، نستكمل في هذه الحلقة الأخيرة الأمثلة عن الهدر والفساد، الخسارة على المستوى البيئي والاجتماعي والخلاصة.

 

أ- أمثلة عن الهدر والفساد

-1 فوائد البنوك

بلغ عدد المصارف العاملة في لبنان، حتى شهر حزيران 2005، 63 مصرفاً، مع قيمة إجمالية للودائع بلغت 54.1 مليار دولار. تنحصر 70% من هذه الودائع ضمن 14 مصرفاً من المصارف الثلاثة والستين. ونتيجة التواطؤ الجاري بين المصارف الخاصة والحكومات المتعاقبة، تمكّنت الحكومة من تحمّل التكاليف الباهظة الناتجة عن ظاهرة الفساد والهدر المستفحلة. فقد حصلت الحكومة على القروض من هذه المصارف وذلك بفوائد مرتفعة للغاية، مما سمح للقطاع المصرفي بتحقيق أرباح طائلة على حساب الخزينة العامة رغم الركود الاقتصادي (بلغت فوائد سندات الخزينة 28,180 مليون دولار خلال الفترة 1993-2005).

 

-2 قانون دمج المصارف

أقرّ مجلس النواب في العام 1994 قانوناً يهدف إلى تسهيل عمليات دمج المصارف وإنشاء مؤسّسات مصرفية أكبر حجماً، ومساعدة المؤسّسات الصغيرة على مواجهة المشاكل الناتجة عن تدهور قيمة الليرة اللبنانية أو عن سوء الإدارة، وذلك من خلال منح مصرف لبنان القروض للمصارف الدامجة. تمّت بموجب هذا القانون 25 عملية دمج، من دون التدقيق بشكل فعّال في نوايا هذه المصارف واحتياجاتها الفعلية. بلغت قيمة القروض الممنوحة 1,150 مليون دولار بفائدة لا تتخطّى نسبة 3%–5% ولآجال طويلة (10-15 سنة). عمدت المصارف الدامجة بدورها إلى استثمار هذه القروض بشكل سندات خزينة فحقّقت أرباحاً طائلة.

 

-3 تبييض الأموال

كان لبنان من أوائل دول المنطقة التي اعتمدت قانون السرّية المصرفية، مما جذب الودائع من مختلف البلدان العربية التي تشهد تغييراً في النظام بالإضافة إلى تدفّق البترودولار. تحوّل لبنان إلى ملاذ لعمليات تبييض الأموال مما أدّى إلى تصنيفه ضمن الدول الـ 15 غير المتعاونة في موضوع تبييض الأموال من قبل مجموعة العمل المالي الدولي (GAFI). تمّ إقرار قانون متعلّق بمكافحة تبييض الأموال في العام 2001 إلا أن الانتهاكات استمرّت في ظلّ تغطية أمّنتها الطبقة السياسية الحاكمة مثل قضية بنك المدينة.

 

-4 شركات الإسمنت

وافقت الحكومة اللبنانية على قرار حظر استيراد الإسمنت مقابل تعهّد الشركات الثلاث الرئيسيّة في هذا القطاع بتخفيض أسعارها. إلاّ أن هذه الشركات لم تلتزم بعهودها فعمدت إلى الاحتكار ورفعت أسعارها محقّقة أرباحاً طائلة على حساب الشعب اللبناني. فبلغت قيمة التكاليف التي تكبّدها المستهلك في الفترة 1993-2003 نحو 1.3 مليار دولار وفقاً لتقرير أعدّته «الدولية للمعلومات» لم يُنشر بعد حول ثمن الفساد والهدر.

 

-5 القطاع الخلوي

أصدرت الحكومة تراخيص لشركتين خاصتين في العام 1994 من أجل إنشاء وتشغيل شبكتين خلويتين، كان المساهمون فيهما مقرّبين من مسؤولين رفيعي الشأن. حدّدت الشركتان، بعد أخذ البركة من الحكومة (الحكومات)، ثمن الخطوط ودقائق التخابر فعُدّت من بين أغلى التسعيرات في العالم. تمّ تحقيق أرباح طائلة قُدّرت بما يفوق المليار دولار.

بالإضافة إلى ذلك، حصلت الشركتان على 180 مليون دولار كتعويض من جانب الحكومة بسبب فسخ العقود قبل موعد الاستحقاق، إلى جانب 600 مليون دولار نتيجة التحكيم الدولي، وهو مبلغ ما كان ليُدفع لو لم تعمد الحكومة إلى فسخ العقود والتي لم تحقّق منها أية فوائد مجزية.

 

-6 الأملاك العامة

استولى خلال الحرب الأهلية اللبنانية عدد كبير من السياسيين وزعماء الأحزاب النافذين على أملاك عامة على ضفاف الأنهار وشاطئ البحر فأنشأوا المشاريع السياحية والتجارية. تمّ التقدّم باقتراح قانون إلى مجلس النواب يهدف إلى تصحيح الوضع الحالي إلا أنه مجمّد منذ العام 1993. تُقدّر الخسائر بـ 500 مليون دولار كحدّ أدنى كان يفترض أن تحصّلها الحكومة نتيجة لتسوية تلك المخالفات و50-70 مليون دولار كإيجارات لقاء تلك الإشغالات.

 

-7 الكهرباء

أنفق لبنان ما يزيد عن 1.8 مليار دولار من أجل إعادة تأهيل المعامل والشبكات الكهربائية وإنشائها، إلاّ أنه قد فشل في تأمين تغذية كهربائية مستمرّة نظراً إلى أسباب عديدة مثل الأعطال المفاجئة، والنقص في المحروقات، وعجز الموازنة الناتج عن ارتفاع سعر المحروقات عالمياً، والسرقات في هذا القطاع التي تُقدّر بحوالي 300 مليون دولار سنوياً.

 

-8 الصحّة

ثمّة أجهزة حكومية عديدة مسؤولة عن تأمين الرعاية الصحّية: وزارة الصحّة، المستشفيات العسكرية، تعاونية موظّفي الدولة، وزارة الشؤون الاجتماعية، صناديق التعاضد، الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي. يبلغ مجموع النفقات 590 مليون دولار بالإضافة إلى تكاليف التغطية الصحّية من خلال شركات التأمين الخاصة التي تبلغ 250 مليار ليرة لبنانية في السنة، والفواتير الصحّية المسدّدة مباشرة من قبل المواطن. تبلغ القيمة الإجمالية للنفقات العامة والخاصة في قطاع الصحّة 1.5 مليار دولار، أو 12% من الناتج المحلّي الإجمالي وفقاً للتقرير المشار إليه سابقاً، وهي نسبة مرتفعة للغاية إذا ما قورنت ببلدان أخرى شبيهة بلبنان.

 

بالإضافة إلى ذلك، بلغت النفقات المرصودة للدواء 30%-25% من النفقات الصحّية الإجمالية، وقُدّرت بنحو 450-500 مليون دولار سنوياً (2000-2003)، وهي قيمة بالغة الارتفاع أيضاً مقارنة بالبلدان العربية الأخرى مثل الأردن (120 مليون دولار)، والكويت (150 مليون دولار)، وليبيا (215 مليون دولار)، وسورية (225 مليون دولار)، وعمان (110 ملايين دولار)، والإمارات العربية المتّحدة (190 مليون دولار).

 

يعود ارتفاع قيمة الإنفاق العام على الرعاية الصحّية والطبّية إلى أسباب عديدة: اعتماد الأجهزة المعنية لوائح أسعار مختلفة حتى ضمن المستشفى الواحد، ارتفاع عدد العقود المبرمة مع المستشفيات الخاصة لاعتبارات سياسية وطائفية وليس لاحتياجات طبّية، غياب الرقابة والتدقيق في فواتير المستشفيات فحتى عند الكشف عن المخالفات، تُطوى القضية بسبب الحماية السياسية التي تتمتّع بها المؤسّسة. لقد كشفت الدراسة السابق ذكرها أيضاً أنه يمكن خفض هذه القيمة بنحو 500 مليون دولار، مما يؤدّي إلى خفض الإنفاق على القطاع الصحّي إلى نسبة 6% عوضاً عن 12% من الناتج المحلّي الإجمالي.

 

-9 التعليم

بلغت قيمة الأموال التي رُصدت لقطاع التعليم في موازنة العام 2004، 690 مليون دولار. وإذا ما أضفنا قيمة نفقات التعليم الخاص، تصبح القيمة الإجمالية لنفقات قطاع التعليم 1.6 مليار دولار.

 

تشير هذه الأرقام المرتفعة إلى وجود هدر يمكن إيجازه كما يلي:

- الفائض في عدد المعلّمين في المدارس الرسمية مع نسبة تصل إلى معلّم واحد لكل 9 تلاميذ، مقارنة بمعدّل معلّم واحد لكل 15 تلميذاً في المدارس الخاصة.

- التعاقد مع معلّمين من دون وجود حاجة فعلية إليهم.

- المساعدات والمنح التعليمية التي يستفيد منها موظّفو القطاع العام عن أبنائهم المسجّلين في مدارس خاصة.

- تخصيص 20 مليون دولار سنوياً لمدارس خاصة مجّانية (تابعة لمؤسّسات دينية) على الرغم من أن المدارس الرسمية قادرة على استيعاب تلامذة هذه المدارس.

 

لقد كشفت دراسات جدّية أنه يمكن تخفيض قيمة هذا الإنفاق بنحو 800 مليون دولار، أي خفض تكلفة القطاع التعليمي إلى 5%، وهي نسبة الإنفاق الحاصلة في البلدان الشبيهة بلبنان.

 

-10 المنظّمات غير الحكومية

ترصد وزارة الشؤون الاجتماعية مبالغ سنوية للجمعيات التي لا تتوخّى الربح، بلغت قيمتها 70 مليون دولار في العام 2004. على الرغم من عدم فعالية هذه الجمعيات وافتقارها إلى الشفافية، تعجز الحكومة عن إلغاء مخصّصاتها نظراً إلى الدعم السياسي والطائفي الذي تحظى به.

 

-11 فائض الموظّفين

قُدّر فائض الموظّفين في الإدارات والمؤسّسات العامة (باستثناء المعلّمين وقوى الأمن) بنحو 13 ألف، مع كلفة سنوية تتراوح بين 60 و70 مليون دولار. هنا أيضاً نرى الحكومة عاجزة عن اتّخاذ القرارات الملائمة نظراً للحصانة السياسية أو الدينية التي يتمتّع بها هؤلاء الموظّفون.

 

-12 وزارة المهجّرين

قدّرت الحكومة اللبنانية في العام 1993 تكاليف عودة المهجّرين بنحو 550 مليون دولار. إلاّ أن الحكومات المتعاقبة كانت قد أنفقت بحلول نهاية تموز 2005، 1.150 مليون دولار، مؤكّدة على حاجتها إلى مبلغ 500 مليون دولار إضافي من أجل إنهاء هذا الملفّ. السبب الحقيقي لهذا الهدر هو دفع التعويضات إلى المهجّرين على أساس مصالح انتخابية وسياسية وطائفية بدلاً من الحاجات الفعلية.

 

ب- الخسارة على المستوى البيئي

يُعتبر الانحلال البيئي من المشاكل الرئيسية التي يواجهها لبنان. فقد قُدّرت تكاليف هذا القطاع بين 500 و560 مليون دولار سنوياً(1). ثمّة أسباب عديدة لهذا الانحلال، مثل:

- الانبعاثات من محرّكات السيارات، خاصة في المدن المكتظّة.

- الانبعاثات من المصانع، خاصة معامل الإسمنت في الشمال.

- غياب المصانع والشبكات المتخصّصة في معالجة مياه الصرف الصحّي.

- غياب أيّة خطة لمعالجة النفايات الصلبة.

- الافتقار إلى التنظيم وتعزيز القوانين المتعلّقة بالمقالع والكسّارات.

- عدم تنفيذ الخطط الريفية والمدينية أو غيابها.

 

ج- التداعيات على مستوى الخدمات الاجتماعية والعامة

نظراً إلى الظروف السائدة، تعاني فئات عديدة من الإهمال إذ أنّها لا تشكّل عنصراً أساسياً في المعادلة التي تهمّ الطبقة السياسية، مثل المجموعات الضعيفة والمهمّشة (الأطفال ذوو الاحتياجات الخاصة، المسنّون، الأيتام، المعوقون، اللاجئون الفلسطينيون، الخادمات الأجنبيات، إلخ...) (الرسم رقم 1). فالخدمات التي تقدّمها الحكومة لتلبية احتياجات هذه الفئات ضئيلة جداً، أو معدومة. لذا، فالمواطنون مجبرون على اللجوء إلى مؤسسّات الطائفة التي ينتمون إليها (المموّلة بغالبيتها من قبل الحكومة)، ممّا يعزّز تبعية المواطنين لهذه المؤسّسات واعتمادهم عليها عوض دولتهم.

د- الخلاصة

قد يكون النظام اللبناني أشبه بالجريمة المثالية التي لا يمكن الكشف فيها عن المرتكبين الفعليين؛ فالمواطنون يلقون اللوم على الموظّفين، والموظّفون يوجّهون أصابع الاتّهام نحو السياسيين، والسياسيون يدينون المواطنين والموظّفين والتدخّل الأجنبي الذي يلقي اللوم بدوره على الجميع. ما من أحد يتحمّل مسؤولية الأوضاع السائدة. فالمواطنون يستمرّون في دعم الطبقة السياسية نفسها التي تكافئهم من خلال منح الامتيازات إلى الطوائف. الموظّفون يشتكون من التدخّل السياسي إلاّ أنّ هذا التدخّل نفسه هو الذي ضمن توظيفهم وبقاءهم في مناصبهم، في ظلّ غياب النظام المبني على الكفاءة وسيادة المحسوبية والواسطة.

 

يلجأ «الزعماء» إلى تدخّل القوى الأجنبية المتربّصة التي تدعم بدورها حكم هذه الطبقة وتعزّزه، على الرغم من إدانتها لفسادها وللظروف الجغرافية السياسية السائدة التي هي من صنعها. يشهد لبنان اليوم موجة من التدخّل السياسي الأجنبي الذي ساهمت فيه كافّة الطوائف؛ فالزعماء السنّة تحالفوا مع الولايات المتحدة، والدروز مع فرنسا، والشيعة مع إيران وسوريا، والموارنة مع فرنسا والولايات المتحدة.

 

لقد تناولت هذه المقالة نماذج عن «الفساد» أو بالأصح «الحالة»، يتحمّل مسؤوليتها المباشرة الشعب والمسؤولون اللبنانيون. إلاّ أنّ أيّ تحليل معمّق لآفة الفساد يستلزم، بالإضافة إلى ما ورد سابقاً، تحليلاً لمظاهر الفساد الناتجة عن التدخّل الخارجي المباشر، مثل التدخّل السوري في العقدين الأخيرين. هذا إلى جانب دور المنظّمات الدولية مثل مؤسّسة التمويل الدولية (IFC) التي موّلت عمليّة توسيع معمل إسمنت في الشمال على الرغم من إدراكها للآثار البيئية السلبية الناتجة عن هذا المشروع، وبعض المنظّمات التابعة إلى الأمم المتحدة التي تستمرّ في تأمين مظلّة للهدر والفساد. لا شكّ أن النظام يلائم اللاعبين بأصول قواعده ويأسر من ينجذب إلى ألاعيبه إلاّ أنّه يسحق الضعفاء والثوار من دون رحمة.

 

أظهرت هذه المقالة أيضاً مرونة النظام وتماسكه ودرجة مقاومته وقدرته على التكيّف مع المتغيّرات. فكلّ محاولة للإصلاح ومكافحة الفساد يجب أن تهدف إلى القضاء على النظام الطائفي نفسه. وبالتالي فإنّ المفاهيم الجديدة المتعلّقة بالإصلاح الاجتماعي والمالي، مثل مقاربة «جزر النزاهة» و«الجرعة السريعة» التي تستهدف الإصلاح الجزئي محكومة بالفشل. لا بدّ من قيام حوار حقيقي بين اللبنانيين من أجل تشخيص الأسباب الجوهرية كخطوة ضرورية باتّجاه «ثورة ثقافية» تؤدّي في نهاية المطاف إلى إنشاء سلّم قيم قادر على كسر الحلقة المفرغة واستهلال مسيرة الإصلاح الطويلة. ويكفي اللبنانيين لوم الآخرين على مصير ارتضوه.

 

جواد عدره

 

(1) البنك الدولي, 2004 ص 15

World Bank, 2004. Cost of environmental degradation - the case of Lebanon and Tunisia, Vol. 1 of 1

اترك تعليقا