رسائل إلى صديق هناك (6)  الثلث الضامن الضائع

                                                                               بقلم جـــــــواد نــــــديم عـــدره

7 آب 2021

الصديق العزيز،

عندما تزداد المعرفة يزداد الألم. وهكذا تذكرتَ أنت خليل حاوي وحادثة انتحاره حين دخل الجيش الإسرائيلي إلى بيروت في 5 تموز 1982 وكان قبلها قد كتبَ: "أرى فحمة سوداء من المحيط إلى الخليج".

وإذ بالذاكرة تعود إلى بطرس البستاني مؤسس أول مدرسة علمانية في العام 1863 (المدرسة الوطنية) وأول جريدة وطنية راقية (نفير سوريا) في العام 1860، إثر مذابح ذلك العام في دمشق وفي جبل لبنان.

وإلى أحمد فارس الشدياق في كتابه "الساق على الساق" ونتذكر ناصيف اليازجي في "طوق الحمامة" و"عقد الجمان في علم البيان" وزينب فواز أول روائية باللغة العربية.

هؤلاء الرّواد زرعوا الأمل وأسّسوا لحركة التنوير مع الكواكبي وفرح أنطون وشبلي الشميل وغيرهم. أعرف أنك ستسارع إلى القول: وماذا عن حكومة حسان دياب؟ ولماذا عجزنا نحن ‏الثائرون أو المعترضون على الوضع من تأسيس حركة تغيير جذرية تملك الرؤية والإرادة؟ ولماذا عجزنا عن كسب ثقة الناس؟

نعود للتاريخ لنتعلم فلا نرتكب أخطاءً أُرتكبت سابقاً. ونعود للتاريخ ليعلم الراطنون باللغات الأجنبية أنّ في بلادنا من تحمّل قبلهم ومن أيام أجداد أجدادهم ولم يُوفّقْ. علّهم يتواضعون فلا يحاضروا أولاً عن تضحياتهم ‏ويتعلمون ثانية أنّ التغيير، حتى لا نقول ثورة، طريقه معبّد بمشقّات لا يدركونها وقد إمتطى هذه المشقات روّاد ونهضويون قبلهم ودفعوا الثمن غالياً. هل انتبه حسان دياب والوزراء معه أو هل فكّروا بكل هذا قبل تنكبهم المسؤولية؟

الواقع أيّها الصديق أنّ بعض القوى السياسية نجحت باستخدام الحكومة كستار أو محطة استراحة حتى تستعيد وضعها وتمتص غضب الناس وتُحوله ضد الحكومة وضد وزرائها الصادقي النوايا والنظاف الكفّ. كان مهماً لتلك القوى السياسية أن لا يكون في موضع القرار من يتمتع بالوعي السياسي والرؤية الاقتصادية والاجتماعية التربوية المهمة في إعادة تكوين لبنان على أسس المواطنة والحداثة والمساءلة في دولة القانون والمؤسسات. وهكذا استمرّ الانحدار. ونُحرت الحكومة.

ها أنتَ تذكرّني بما كتبتُه أنا عن هذه الحكومة في شهورها وحتى أسابيعها الأولى وتتساءل لماذا لم تصل هذه العبارات الى عقولهم وقلوبهم؟ والجواب أنّها وصلت مع عبارات الآخرين الذين كتبوا مثلي وحذّروا.

وجاء الجواب من الرئيس دياب شخصياً: "التجربة صعبة جداً كوني رئيس تكنوقراط، لا حزبي ومستقل.." وقال أيضاً ".. لم أكن أتوقع هذا الكمّ من الفساد.. هناك منظومة عميقة تتحكم بمفاصل الدولة..."

يُكتب لحكومة دياب:

  1. مصارحتها الناس بالوضع المالي وبالمخاطر
  2. محاولتها إقرار الكابيتال كونترول
  3. وضعها لخطة مالية
  4. معالجتها لموضوع الكورونا
  5. تكوينها من وزراء نظاف الكف صادقي النوايا وعاملين جديين
  6. تظافر الداخل والخارج ضدها

يؤخذ على حكومة دياب:

  1. عدم الإقدام على الإستقالة حين أُجهضت محاولات الكابيتال كونترول والخطة المالية.
  2. غياب الوعي السياسي لواقع لبنان
  3. غياب القيادة وعدم التمكن من الحفاظ على ثقة الناس الذين وهبوها إياها في الأشهر الأولى
  4. غياب الخبرة والإرادة لأخذ القرارات المتوجبة في الأزمات
  5. عدم التصدي بحكمة وحزم لكارتيلات المصارف والنفط والدواء والمستلزمات الطبية والقمح وغيرهم ممن سيطروا على حقوق الدولة والناس.

وهنا لا بدّ من طرح السؤال الأساسي: هل اللبنانيون "شوارع"؟

وسط الكلام عن ضرورة تشكيل حكومة لإجراء الانتخابات النيابية المقبلة، والكلام عن انقسام اللبنانيين إلى شوارع: "شارع سني" و"شارع شيعي" و"شارع مسيحي"، وكذلك تراكم الآمال بأنّ التغيير آت عبر "مجتمع مدني" مما حفّز النقاش حول "الشارع" الذي سيكون زعماؤه أكبر الخاسرين. فراحت الترجيحات نحو "شارع مسيحي" منقسم بين "قوات" و"تيار" مما سيفتح المجال "لشارع ثالث" من "مستقلين" و"مجتمع مدني".

كما كثر الكلام عن تراجع تيار المستقبل في "الشارع السني" وعن تماسك "الثنائي الشيعي" مما قد يؤكد على استمرار شعبيته لدى "الشارع الشيعي".

تؤكد استطلاعات "الدولية للمعلومات" منذ 1995 وحتى 2020 أنّ نحو 33% من اللبنانيين على الأقل من جميع الطوائف هم ضد زعامات الطوائف وضد "الشوارع".

ولكن هذه الأصوات لم تترجم عملياً في الانتخابات لماذا؟

  1. الانقسام: برهنت انتخابات 2018 أنّ منظري الإصلاح والصارخين "ثورة.. ثورة"، ليسوا موحّدين. ولو توحدوا لجاؤوا بنحو 6 نواب على الأقل لمجلس 2018. هذا طبعاً قد لا يغيّر شيئاً ولكن قد يُبنى عليه. هل تعلّموا من درس 2018؟ هذا ما سنراه في الشهور المقبلة.

  1. الإحباط والإنكفاء: مفككون هم اللبنانيون ومحبطون. لا يعرف الجيل الجديد مدى وحجم التضحيات التي بذلها أجدادهم حين انتموا إلى حركات وأحزاب وأفكار تغييرية من أيام بطرس البستاني وأحمد فارس الشدياق إلى جبران وخليل حاوي. عشرات الاف الناس دفعت الدم والمال والتشرد والغربة في أحزاب إيديولوجية لم ترق إلى مستوى أفكارها وفي حركات ثقافية كان طموح بعض مؤسسيها وزارة.

  1. اختيار الأقل سوءاً: يلجأ اللبناني إلى هذا القرار لأنّ الخيارات أمامه محدودة ولأن بيئة النظام السياسي لا تنتج نُخباً.

  1. النكاية والمصلحة: أثبتت استطلاعاتنا أنّ نحو 25% من اللبنانيين (أي ربعهم) ينتخبون نكاية أو لمصلحة.

بدأت "الدولية للمعلومات" بإجراء استطلاعات دورية، ليس للتأكد من شعبية فلان أو علتان، وإن كان ذلك سيكون من النتائج الطبيعية والجانبية، بل لاكتشاف الأسباب الجوهرية لسلوك اللبنانيين، وربما التكهن بسلوكهم الانتخابي المقبل في ربيع 2022.

يعتبر أكثر من 60% من اللبنانيين ومن كل "الشوارع" أنّ "لا أحد" من الأحزاب والقوى السياسية يمثلهم، أما بالنسبة للشخصيات التي يعتبر اللبنانيون أنها تمثلهم فقد جاءت الإجابات لتؤكد مدى قوة هذا الـــ "لا أحد" إذ أن أكثر من 60% ايضاً من جميع الطوائف عبروا أن "لا أحد" من الزعماء يمثلهم.

26% فقط صرّحوا بأنّهم سيقترعوا للجهة ذاتها التي اقترعوا لها في انتخابات 2018، 28% صرّحوا أنّهم لن يقترعوا، 27% قالوا "لم أقرر حتى الآن"، 6% فقط قالوا أنّهم سيقترعوا "لجهة أخرى". (الاستطلاع جرى في تموز 2021).

ولدى سؤال الذين قرروا الإنكفاء أو غيروا رأيهم أو قالوا أنّهم لن يقترعوا لذات الجهة التي اقترعوا لها في العام 2018 وهم يمثلون أكثرية 61%، جاءت الأسباب:

  • 33% "أحمّل الجهة السياسية التي اقترعت لها مسؤولية الإنهيار".
  • 33% "لم أعد أثق بالجهة التي اقترعت لها".
  • 28% "بروز جهات أخرى تمثلني".

وهنا يأتي دور ذلك الثلث الضامن الضائع مجدداً وكما ورد في رسالة لك سابقة:

ثلث‎ ‎اللبنانيين‎ ‎يريد‎ ‎الزواج‎ ‎المدني،‎ ‎وثلثهم‎ ‎يريد‎ ‎انتخابات‎ ‎نيابية‎ ‎غير طائفية،‎ ‎وثلثهم‎ ‎يريد‎ ‎عملية‎ ‎مصالحة‎ ‎وغفران‎ ‎حقيقية،‎ ‎وثلثهم‎ ‎يريد‎ ‎مجتمعاً‎ ‎مدنياً‎ ‎عصرياً‎ ‎حرّاً‎ ‎من‎ ‎رجال‎ ‎الطوائف‎ ‎والدين.‎

إنّه‎ ‎الثلث‎ ‎الضائع‎ ‎الذي‎ ‎لو‎ ‎توفّر‎ ‎له‎ ‎إعلام‎ ‎مستقلّ،‎ ‎لأصبح‎ ‎حدثاً،‎ ‎ولو‎ ‎توفّر‎ ‎له‎ ‎قادة،‎ ‎لشكّل‎ ‎حالة‎ ‎تغيير‎ ‎في ‏‎ ‎البلد. إنّه‎ ‎الثلث‎ ‎الضائع‎ ‎الذي‎ ‎لا‎ ‎يلهث‎ ‎وراء‎ ‎الخارج‎ ‎ووراء‎ ‎زعماء‎ ‎الطوائف‎ ‎لمواجهة‎ ‎التحدّيات. ‎ ‎هذا‎ ‎الثلث‎ ‎هو‎ ‎مقاوم‎ ‎ليس‎ ‎لأنّه‎ ‎شيعي‎ ‎أو‎ ‎"فارسي"،‎ ‎وهو‎ ‎مع‎ ‎السيادة‎ ‎ليس‎ ‎لأنّه‎ ‎ماروني‎ ‎أو‎ ‎فينيقي،‎ ‎وهو‎ ‎يريد ‎ ‎الحقيقة‎ ‎ليس‎ ‎لأنّه‎ ‎سنّي‎ ‎أو‎ ‎حريري،‎ ‎وهو‎ ‎موحّد‎ ‎ليس‎ ‎لأنّه‎ ‎درزي‎ ‎أو‎ ‎جنبلاطي. ‎هذا‎ ‎الثلث‎ ‎لا‎ ‎زعيم‎ ‎له‎ ‎ولا‎ ‎ورثة‎ ‎ولا‎ ‎يريد‎ ‎زعيماً‎ ‎واحداً.‎

‏هذا الثلث يريد استرجاع حقوق الدولة والناس ولن يستعطي الدعم من الخارج بل سيكسب ثقته لأنّه يُؤمن بالاقتصاد المنتج وبهيكلة القطاع المصرفي ما سوف يولّد دورة اقتصادية تنمّي الداخل وتجذب الخارج لأنّ لبنان يستحق ولأنّ الإستثمار فيه مربح.

هذا‎ ‎الثلث‎ ‎الذي‎ ‎لا‎ ‎تراه‎ ‎الموالاة‎ ‎ولا‎ ‎تلحظه‎ ‎المعارضة‎ ‎هو‎ ‎الثلث‎ ‎الضامن‎ ‎لهذا البلد. لكنّه‎ ‎ضائع‎ ‎لأنّه‎ ‎ينتمي ‏‏‎ ‎إلى‎ ‎جميع‎ ‎الأطياف‎ ‎والطوائف‎ ‎ولا‎ ‎طائفة‎ ‎له،‎ ‎ولذلك‎ ‎هو‎ ‎ضامن‎ ‎حتى‎ ‎في‎ ‎غيابه.‎

 

اترك تعليقا