بيروت اليوم نسخة مستحدثة عن بيروت الأمس؟

الحقيقة: منذ أوائل التسعينيات، خضعت بيروت إلى عملية إعادة بناء وتأهيل واسعة بغية تبديد سوء السمعة الذي التصق باسمها كمدينة ممزّقة بالحروب ومنعزلة عن سائر العالم بحكم ما عانته من هشاشة وتردٍّ في الوضع الأمني. وكان من الحكمة تمرير صورة المدينة الجامعة للجنسيات والرائدة في مجال الفنون والأعمال إلى الجيل الجديد، بعد أن كانت الحرب قد أطاحت بهذا الإرث المرموق وحوّلت المدينة من قلبٍ نابضٍ بالحياة والنشاط إلى أحياء مهجورة ومعزولة. تمّ تلزيم مهمة إعادة إعمار العاصمة وتطوير وسط بيروت إلى شركة سوليدير الخاصة بموجب مرسوم حكومي قضى بالاستحصال على قطع الأراضي وغيرها من الممتلكات مقابل مبالغ معينة من المال أو بعض الأسهم في الشركة. وعليه، باتت السمات المدنية الجديدة لبيروت ما بعد الحرب مرهونةً حصراً برؤية وتصوّر شركة واحدة، أمّا آخر صيحات هذه الشركة فهي منطقة الزيتونة باي.

لكن هل هذه هي فعلاً الصورة الحقيقية لبيروت؟ هل ما يعرف اليوم بمنطقة الزيتونة باي تجسيدٌ حقيقي لما تمّ الترويج له؟ في الواقع، لقد كانت بيروت الخمسينيات والستينيات في خدمة اللبنانيين والأسواق المحليّة، أما الزيتونة باي فهي مساحة صغيرة تمتدّ على الساحل إلى ما بعد حدودها الطبيعية وتلبّي نوعاً مختلفاً من الخدمات. هذا الجوار الذي اتّخذ لنفسه اسم الخليج حيث يزعم أن القديس جورج أردى التنين الشرس قتيلاً كان في الماضي مقصداً للدعارة يتردّد إليه رجال المليشيات والعصابات المسلّحة.

إن عدم وجود بحث يفسّر هذا التحوّل وفي ظلّ النقص الذي يعتري مادّة التاريخ وأسس تعليمها، أصبحت الجغرافيا النفسية لدينا شديدة التأثّر بمفاهيم الآن والهنا. لقد أنستنا الحرب الهوية الحقيقية للمدينة وباتت عقولنا بمثابة لوح فارغ يتشرّب ما رسمته عقول رجال المال والأعمال من سمات وصفات طبعت هوية جديدة للمدينة. بالرغم من المتعة التي توفّرها بيروت اليوم للعين والنظر، إلا أنها تستثني شريحة كبيرة من اللبنانيين وتصبّ في خدمة رجال الأعمال والسيّاح المقتدرين دون سواهم. عوضاً عن استرداد الجوهر الحقيقي للمدينة، جلّ ما فعلناه كان خلق ذاكرة مزيّفة سلخت مجموعة واسعة من اللبنانيين عن مساحة يفترض أنها مشتركة للجميع سواسية. 

اترك تعليقا