فينيقيا في العصر الروماني
الشهرية – العدد 77 – آذار 2010
8
فينيقيا في العصر الروماني
الدكتور حسان سلامة سركيس
في مواجهة انهيار مؤسّسات الدولة السلوقيّة، كانت مهمّة بومبيوس وضع حدّ لنشاطات القراصنة الذين كانت مدن الساحل تدعمهم ببناء سفنهم وبيع رقيقهم، وقمع الميليشيات المحلّيّة التي كانت تتحكّم بطرابلس وجبيل ومناطق آفامية وعمّان وجرش وحلب وسوريا الشماليّة وحرّان والفرات وفلسطين وغيرها.
لم تكن مؤسّسات الدولة الرومانيّة قادرة على ضبط شؤون إمبراطوريّة مترامية الأطراف، ناهيك عن طموحات قادة جيوشها اللامحدودة. فغرقت الجمهوريّة الرومانيّة الهَرِمَة في حروب أهليّة انتهت بانتصار أوكتاڤيوس على زميله ماركوس أنطونيوس وحليفته المصريّة كليوباترا السابعة في معركة أكسيوم البحريّة سنة 31 ق.م.
غداة انتصاره، تمكّن أوكتاڤيوس، بدهاء لا مثيل له وبدعم أحد أصدقائه الأثرياء من رشوة مجلس الشيوخ الذي أغدق عليه ألقاب “الأوّل” بين الرومان و”الإمبراطور”، أي القائد المنتصر، و”الحبر الأعظم” التي كانت بمثابة أقنعة تمكّنه من الإمساك بجميع السلطات، السياسيّة والعسكريّة والدينيّة. وفي كانون الثاني 27 ق.م.، منحه مجلس الشيوخ لقب «أُغُسطُس»، الذي يُسبغ على حامله مسحة من الألوهة. وبهذا أسّس أُغُسطُس عهداً جديداً وإمبراطوريّة كان لها أن تستمرّ طيلة أربعة قرون، قبل أن يقسمها ثيوذوسيوس الأوّل الكبير إلى قسمين في نهاية القرن الرابع.
أرسى أُغُسطُس أُسُس سياسة اعتمدها جميع خلفائه. ففي ظلّ “السلام الروماني”، استكملت فينيقيا تحوّلها الثقافيّ الجذري الذي كانت قد بدأته في العصر المتأغرِق. وفيما كانت اللاتينيّة منتشرة في أوساط الإدارة والجيش وفي الكتابات الرسميّة وبين سكّان “المستعمرات” التي يستوطنها قدامى المحاربين (كمستعمرة بيروت التي أُنشِأت لتوطين قُدامى الفَيلَقين الخامس المقدوني والثامن الغاليّ، والتي كانت تضمّ، عند تأسيسها، منطقة بعلبك ومنابع العاصي)، بقيت اليونانيّة تشكّل قاعدة الثقافة والتعليم ولغة التواصل بين أفراد الطبقات الميسورة، حتّى انّها حلّت محلّ اللاتينيّة في بعض المجالات. وكان من نتائج هذه التحوّلات الثقافيّة أن اختفت اللغات المحلّيّة، كالأراميّة، بشكل شبه نهائي من الكتابات الرسميّة ليقتصر استعمال بعض لهجاتها على التواصل الشفهي لدى بعض الفئات الاجتماعيّة.
وبهدف تشجيع السكّان المحلّيّين على اعتماد الثقافة الجديدة، ركّز الرومان اهتمامهم على الانجازات العمرانيّة. وقد تنبّه الإمبراطور “أُغُسطُس” إلى أهميّة بعلبكّ الاقتصاديّة والدينيّة، ما دفع به إلى تأسيس مشروع عظيم يجعل منها واجهة دعائيّة تُبرز صورة روما وعظمتها وقوتها بين التجّار والحجّاج الذين يقصدونها فينشرون تلك الصورة في أوطانهم. وكان ذلك جزءاً من سياسة الدولة في ترسيخ السيطرة الرومانيّة على المنطقة. وقد استمرّ العمل في مُجَمَّع بعلبكّ الديني زهاء أربعة قرون وتعاقب على تحقيقه وتمويله عدد من الأباطرة. ومن أهمّ المبادرات السياسيّة التي أسهمت في تعميق انتماء السكّان المحلّيين إلى حضارة واحدة وتبنّيهم العادات والتقاليد والأسماء الرومانيّة، منحُ الإمبراطور كركلا سنة 212 جميعَ سكّان الإمبراطوريّة الأحرار حق المواطنيّة الرومانيّة.
وبفضل مساهمة السلطات الدينيّة والمدنيّة في التمويل، ارتفعت في مدن المنطقة العمائر المشيّدَة والمزخرفة بحسب الطراز اليوناني-الروماني. وفيما كانت المقالع المحليّة تؤمّن أجود أنواع الحجر الكلسيّ، كان يتمّ استقدام الغرانيت الأحمر أو الرمادي والحجر السمّاقي من مصر، والرخام الأخضر والأبيض من إيطاليا واليونان. وكان الوُجهاء المحلّيّون والأجانب على السواء يتسابقون على تزيين مدنهم بالتماثيل وأقواس النصر والحمّامات العامّة والمسارح وقناطر جرّ المياه وميادين سباق عربات الخيل، فيما كانت بعض المدن تنظّم ألعاباً يتبارى فيها رياضيّون من جميع أنحاء الإمبراطوريّة.
ودونما مساس بمقتضيات العبادات والطقوس التقليديّة، انتشرت على أنقاض المُصَلّيات المحلّيّة مزارات ومعابد شُيِّدَت وزُخرِفَت بحسب قواعد العمارة اليونانيّة-الرومانيّة. وكانت المدافن العمائريّة والنوواويس الرخاميّة المستورَدَة من بلاد الإغريق والمزيّنة بمنحوتات ذات مواضيع مستوحاة من الميثولوجيا والملاحم اليونانيّة تملأ الجبّانات المنتشرة على جوانب الطرق المؤدّية إلى مداخل المدن.
تميّزت بيروت بين مدن ولاية سوريا-فينيقيا بكونها مستعمرة رومانيّة صرفة تتمتّع بالحقوق التي تتمتّع بها المدن الإيطاليّة. وكانت قبل سنة 196 مركزاً لإعلان المراسيم الإمبراطوريّة المتعلّقة بالولايات المشرقيّة وحفظها. ممّا أهّل القيّمين على تلك المحفوظات للإفادة منها في تدريس القوانين. وفي غياب أيّة إشارة إلى تاريخ تأسيس مدرسة للحقوق فيها، فإن أقدم مصدر يتحدّث عنها يرجع إلى القرن الثالث. ولم تحصل على اعتراف رسميّ بوجودها إلا في بدايات القرن الخامس، واعتُبِرَت موازية لمدرستي روما والقسطنطينيّة. وفي سنة 551 قضى زلزال عظيم صحبته موجة مدّيّة عارمة على عدد من مدن الساحل، لا سيّما بيروت التي انتقلت مدرستها الشهيرة إلى صيدا.
ومن الجدير بالذكر أن لا وجود في المصادر لأيّة إشارة صريحة حول موقع مدرسة بيروت قبل القرن الخامس. ويبدو أنّها كانت تشكّل جزءاً من ملحقات كاتدرائيّة القيامة التي كانت تقوم في المنطقة الواقعة اليوم بين كاتدرائيّتي القدّيس جاورجيوس للروم الأورثوذوكس والنبي إيليّا للروم الكاثوليك وكنيسة القدّيس يوحنّا المعمدان الفرنجيّة التي تحوّلت إلى الجامع العمري الكبير.
اترك تعليقا