من الحِقَب القبتاريخيّة حتى هجمات شعوب البحر

الشهرية – العدد 71 – أيلول 2009

2

من الحِقَب القبتاريخيّة* حتّى هجمات «شعوب البحر»

بقلم الدكتور حسّان سلامه سركيس

  

كانت مناطق إفريقيا الشرقيّة والجنوبيّة تُعتَبَر المهد الذي شهد تطوّرَ بعض أصناف الرئيسات ونشأةَ الأجناس البشريّة. غير أنّ اكتشافاتٍ أحدث عهداً، أشارت إلى وجود مهدٍ آخر في أواسط آسيا شهد نشأة أروماتٍ بشريّةٍ أخرى. أمّا أقدم الأرومات البشريّة التي عبرت ما سيُصبح لبنان واستقرّت موسميّاً في بعض مواقعه، فتعود إلى حوالى مليون سنة قبل الزمن الحاضر.

واقتصرت حياة إنسان تلك الأزمنة على الصيد والجنى وصنع أدواتٍ وأسلحةٍ صوّانيّة عُثر عليها في مخيّماته الموسميّة التي أقامها في الهواء الطلق أو عند مداخل بعض المغاور. وتُعرف هذه الحقب التي دامت مئات ألوف السنين بعصر الحجر القديم، يليها عصر انتقالي شهد أولى محاولات الإنسان باتجاه الإستقرار.

ففي غضون عصر الحجر الحديث، حوالى الألف السادسة، أخذت بعض الجماعات تستقرّ في مساكن ثابتة وتمارس الزراعة وتربية الحيوانات وتنتج طعامها وتخزّنه وتصنع أدواتها الصوّانيّة ومتاعها الفخّاري وتدفن موتاها، فيما كانت جماعات أخرى تمارس حياة الترحال وتجوب مناطق البقاع حيث ترعى قطعانها. ومن الألف الرابعة، في عصر الحجر والمعدن، أظهرت حفريات جبيل والدكرمان، قرب صيدا، نمطاً بنائيّاً جديداً، تمثَّل بمساكن بيضاويّة من الحجر والطين.

لم يكن إنسان تلك الحقب منغلقاً على نفسه. فكان على علاقةٍ بجماعات بشريّة أخرى، يتبادل معها التقنيّات والخبرات والسلع. وقد أظهرت التنقيبات وجود أدواتٍ مصنوعة من السَبَج، وهو بلّور بركاني كان يُؤتى به من مناطق الأناضول. ويعني تبادل السلع والتقنيّات وجودَ تبادلاتٍ زواجيّة واختلاطاتٍ ثقافيّة ولغويّة ودينيّة، ينبغي أخذها بالحسبان عند التحدّث عن الأصول والجذور. فالحضارات، مُذ وُجِدَت، كانت وما تزال هجينة! وفي حفريات كسار عقيل (انطلياس) عُثِر على هيكلين عظميّين، يعود تاريخهما إلى ما بين أربعين وثلاثين ألف سنة، يتميّز أحدهما بصفات الإنسان المعاصر «العاقل العاقل»، فيما يتميّز الثاني بصفات هجينة، بين «العاقل العاقل» و»العاقل النياندرتالي».

 ففي الألف الثالثة، أصبحت القرى البدائيّة «مدناً» محصّنة، تقيم علاقات تجاريّة وثقافيّة مع بلاد النيل والرافدين. وازدانت جبيل بالعمائر الدينيّة والمدنيّة، واستقطب معبد بعلتِها هدايا فراعنة مصر. غير أنّ نهاية الفترة شهدت في جميع تلك المناطق انهيار الحضارة المُدُنيّة لأسبابٍ متعدّدة، يعتقد بعضهم أنّ من بينها قدوم الكنعانيّين والأموريّين، الذين كانوا يجوبون بادية الشام وينتمون لغويّاً إلى الفرع الساميّ أو الشاميّ، نسبة إلى سام أو شام ابن نوح. وما لبث القادمون الجُدُد أن تخلّقوا بأخلاق أسلافهم الذين لا نعرف أي شيء عن انتمائهم اللغوي أو الإثنيّ. فأعيد بناء أسوار جبيل ومعابدها، كمعبد الأنصاب، على نمطٍ يتناسب ومتطلبات طقوس المستوطنين الجدد.

ففي بدايات الألف الثانية حصلت تحركات بشريّة انطلقت من مناطق آسيا الصغرى وشمال سوريا. فأخذت المدن تدعِّم أسوارها بالزلاقات** كما في جبيل وبيروت. واندفع بعض سكّانها أمام القادمين الجدد ووصلوا إلى دلتا النيل حيث لقّبهُم المصريّون بالهكسوس، أي ملوك (أو رؤساء قبائل) البلاد الغريبة. وبسبب انهيار الإدارة المركزيّة، استولى هؤلاء على السلطة في مصر السفلى والوُسطى مدّة من الزمن. غير أنّهم أبقوا على علاقاتهم التجاريّة مع أنسبائهم الذين بقوا في مدنهم الأصليّة، بحيث أنّهم أسّسوا شبه إمبراطوريّة تجاريّة شملت أنحاء المتوسّط الشرقي.

ففي بدايات القرن السادس عشر، تمكّن المصريّون من طرد الهكسوس وقام بعض ملوكهم العظام، من أمثال تحوتمُس الثالث (القرن الخامس عشر)، بالسيطرة على جميع المناطق الواقعة بين مصر والفرات. غير أنّ ظهور الحثّيين في تلك الفترة في آسيا الصغرى وتمدّدهم باتجاه الجنوب عبر المناطق السوريّة، صادف وجود فراغٍ سياسيّ في مصر، بسبب اهتمام الفرعون أمنحوتب الرابع-أخناتون (القرن الرابع عشر)، بالشؤون الدينيّة، إذ كان يعتقد أنّ بإمكانه توحيد شعوب المنطقة حول عبادة الشمس. غير أنّ طمع الحثّيين وانتهازيّة حلفائهم الأموريين الذين استولوا على مناطق عكّار السوريّة واللبنانيّة وتهديدهم المدن الكنعانيّة، أدّت إلى انهيار تلك المدن. وتعطي «رسائل تل العمارنة» التي بعث بها ملوكها إلى البلاط المصري صورةً عن وضع المنطقة المأساوي في تلك الفترة.

فبقي الوضع على حاله حتّى أوائل القرن الثالث عشر عندما قام الفرعون رعمسيس الثاني بحملةٍ ضد الحثّيين. غير أنّ معركة «قادش» لم تحسم الأمر، وأدّت إلى توقيع هدنةٍ بين الطرفين نعرف صيغَتَيها، المصريّة والحثّية. وقد أُعطيَ الحثّيون بموجبها السيطرة على المناطق الواقعة شمال النهر الكبير الجنوبي، فيما احتفظ المصريّون بنفوذهم في المناطق الواقعة إلى جنوبه. وقد خلّف رعمسيس الثاني وراءه ثلاث كتابات على صخور نهر الكلب.

وحوالى 1200 ق.م.، انهارت المدن الكنعانيّة لأسبابٍ اقتصاديّة واجتماعيّة، زادت في حدّتها غزوات «شعوب البحر» التي غادرت مواطنها الأصليّة في بحر إيجيه. وانتشرت في المنطقة جماعات لم تكن معروفة من قبل واقتطعت لنفسها ممالك على انقاض الحضارة الكنعانيّة.

* قبل التاريخ

** الزلاقة، جدار مائل يُقام بمحاذاة الجزء الأسفل من السور لمنع تسلّقه بواسطة السلالم ولجعل نقب أساساته أكثر صعوبة.

 

اترك تعليقا