لبنان: الجغرافيا والشعب
الشهرية – العدد 70 – آب 2009
1
لبنان: الجغرافيا والشعب
بقلم حسّان سلامه سركيس*
تعيد "الشهرية" نشر هذه المقالة التي سبق نشرها في عدد حزيران 68.
أصبحت محاولة تفسير إسم لبنان من جهة أو تسليط الضوء على موقعه المتميّز كـ"مركز اتصال وتواصل بين قارّات العالم القديم الثلاث" من جهة أخرى لازمةً ما زالت كتبُ الجغرافيا والمنشورات السياحيّة تردّدها حتى الإبتذال!
فعلى رغم محاولات تفسير هذا الإسم باللجوء إلى بعض الجذور الساميّة الحديثة العهد نسبيّاً، عبريّة كانت أو سريانيّة أو فينيقيّة، لا نرى فائدة في استجداء اللَبَن أو اللُبان ومشتقاتِهما لفقه معناه! فتفسير أسماء المواقع بهذه الطريقة أسلوبٌ فاشل، يائس ولا يشكّل أساساً صالحاً لمثل هذا النوع من التحليلات. ذلك أنّ المواقع على اختلافها كانت تشكّل على الدوام معالمَ استدلاليّة بالنسبة إلى الإنسان الذي استوطنها منذ القِدَم، وقبل تمايُز اللغات وتوزّعها بين "هندوأوروبيّة" و"ساميّة" و"حاميّة" ومتفرّعاتها. خصوصاً وأننا نجهل تماماً إلى أي فرع من هذه الفروع تنتمي اللغات أو اللهجات التي كان يُنطَق بها في بدايات الإستقرار في عصر الحجر الحديث، أو في العصور التي سبقت، والتي لا شكّ في أنّ إنسانها كان يستدِلّ على المواقع ويتعرّفها من خلال تسميات معيّنة، ويسبغ عليها أسماء ومصطلحات تعني له ما تعنيه بحسب اللهجة أو اللغة التي كان ينطق بها والتي قد لا تمتّ بصلة إلى ما عُرَف في ما بعد باللغات "الساميّة" أو غيرها.
كانت تلك التسميات تعود في جذورها إلى عصور غابرة بادت ثقافاتُها. ومع مرور الزمن، تناقلتها الشعوب المتعاقبة عبر الحقب المتتالية معدِّلَة فيها ومحوِّرَة ومحرِّفَة لتجعل من تلك الأسماء الصعبة اللفظ أو الفهم أسماء قريبة من مفاهيمها ومصطلحاتها وذهنيتها الخاصّة. فبقيت في بعض الأحيان على حالها أو تعرّضت أصولها ومعانيها أحياناً أخرى إلى بعض التحويرات والتحريفات ليسهل فهمها ولفظها على العابرين أو الوافدين أو المستوطنين الجُدُد، حتى ولو لم يفقه هؤلاء المعاني التي أرادها مَن سبقهم.
أمّا اللازمة الثانية، فهي أيضاً غير ذات معنى. إذ لا وجود في أي مكان لنقطةٍ أو منطقةٍ إلا وتحتلّ موقعاً وسطيّاً بين منطقتين أو أكثر! فما يُقال عن جغرافية لبنان، ينطبق على جميع مناطق العالم وبلدانه بدون استثناء! ولن نتوسّع في مثل هذه الترّهات!
بغضّ النظر إذاً عن الجذر الذي اشتُقَّ منه اسم "لبنان" ومعناه الأصليّ الذي لا نعرفه البتة، فإنّ تلك التسمية كانت على الدوام تُشير إلى جزءٍ من السلسلة الجبليّة التي تحاذي ساحل المتوسّط الشرقي. ولم تُشِر البتة إلى أي شكلٍ من أشكال الكيانات السياسيّة على الإطلاق قبل إعلان "دولة لبنان الكبير" غداة الحرب العالميّة الأولى. وفي تلك الفترة بالذات، تمّ إطلاق اسم الجبل على الكيان الجيوسياسي الجديد وتمّ ترسيم حدوده المعروفة.
غير أنّ المناطق التي شكّلت في وقت من الأوقات كيان "لبنان الكبير" كانت تتوزّع عبر التاريخ بين وحدات وتشكيلات سياسيّة مختلفة، ذات حدود متحرّكة، كما هي حال جميع الحدود عبر التاريخ. ذلك لأنّ هذه "المصطلحات" السياسيّة ليست ثابتة ولا نهائية وتخضع لشروطٍ تتحكّم بها ظروف الحرب والسلم والسياسة والإدارة والإجتماع والدين ومقتضيات مجموعة من الوقائع الإثنيّة والثقافيّة واللغويّة وغيرها.
وهنا لا بدّ من السؤال عن الشعوب أوالجماعات التي عبرت "لبنان" أو استقرّت فيه، موسميّاً أو بشكل دائم، عبر آلاف سنيّ الفترات القبتاريخيّة. وعمّا كانت عليه "لغاتُها" أو "لهجاتُها" أو "معتقداتُها الدينيّة" أو "نُظُمُها الإجتماعيّة. وعن نسبة "الأجداد" القبتاريخيّين، ومن لحق بهم من كنعانيّين وأموريّين و"فينيقيّين"، ممّن احتفظ بـ"نقاوة" "عِرقِه" دونما تمازج أو اختلاط بالشعوب والجماعات والقبائل التي مرّت في المنطقة. وعمّن حافظ على "سلامة" علاقاته دونما أي "اتصال" "شرعيّ" أو "غير شرعيّ" بهؤلاء. من دون أن ننسى دور العناصر الأنثويّة التي دخلت هذه المجتمعات أو خرجت منها حاملة معها تراثها الثقافي والجيني الخاص! كما ينبغي السؤال عمّا كان عليه دور "الغرباء" الذين جاؤوا إلى هذه البقعة من الأرض أو قاتلوا أو استقرّوا فيها أو عبروها، لسببٍ أو لآخر عبر مراحل التاريخ، من مصريّين وبابليّين وأشوريّين وفرس ويونان ورومان وعرب وأرمن وبيزنطيّين، فضلاً عن الشركس والكرد والترك والفرنسيّين أو البريطانيّين، أو الأوستراليّين والجزائريّين والسنغاليّين وغيرهم، مع ما يحمله هؤلاء أيضاً في جيناتهم وكروموزوماتهم من تفاعلات وتمازجات واختلاطات وانحرافات، بيولوجيّة كانت أم ثقافيّة! فهل من الحقيقة بشيء أن يُقال إنّ جميع هؤلاء "ذهبوا وبقي لبنان" من دون أن يتركوا ولو بصمة جينيّة واحدة في عروق اللبنانيّين المعاصرين؟
قد ينزعج بعض المتزمّتين من هذا العرض. إنّما لا مفرّ من النظر بطريقة موضوعيّة إلى واقع الإنسان وتأثير أحداث التاريخ عليه، إذا كان لا بدّ من الخروج من التاريخ "الميثيّ" أو الخياليّ العقيم إلى تاريخ واقعيّ يتمتّع ببعض صفات العلميّة والموضوعيّة.
* أستاذ مساعد للآثار الشرقية في جامعة السوربون سابقاً، أستاذ في قسم الآثار في الجامعة اللبنانية سابقاً، له عدة كتب ونحو 200 بحث ومقال في عدة لغات نشرت مجلات علمية محلية وأجنبية.
اترك تعليقا