رسائل الى صديق هناك (1)

رسائل الى صديق هناك (1)

بقلم جـــــــواد نــــــديم عـــدره

جريدة النهار - 7 تموز 2020

الصديق العزيز،

تتذكر حين كنا نحلم ونعمل لبلد أفضل؟ أعرف أنك ستقول: "طبعاً أتذكر وطبعاً لا نزال نعمل ونحلم". ما سأقوله لك في هذه الرسائل سيحزنك جداً لأن الفارق كبير بين ذلك الزمان واليوم. أيامها كنا نعتقد أن الحلم سيتحقق أما اليوم فأنت وأنا نعلم أننا لم نعد نحلم وان مرارة الواقع تسود. وأنت تذكر أننا كنا نعتقد أن سقوط النظام الاقتصادي الاستهلاكي سوف يسمح لنا بتكوين بلد أفضل، لكن النظام العصي على الإصلاح يجدد نفسه دائماً. اليوم، نحن نعلم أن الحالمين بالتغيير فشلوا أن يكونوا قوة ضغط. وها هم يتنافسون للوصول إلى السلطة ويصرخون ويشتمون، هم مختلفون على التشخيص وعلى الحلول وباختصار غلبتهم "الأنا". أخشى أن يسقطوا ويعود النظام لتكوين ذاته كما فعل بعد الحرب الأهلية.

ذات يوم، وقبل الحرب بثلاث سنوات، غادرتُ أنا لبنان وبقيتَ أنت مع الأصدقاء الآخرين. أنت "المسيحي" ذهبت يساراً وصديقنا الآخر "المسلم" ذهب يميناً. كنتَ تطربْ لخطاب العروبة وللصلاة في القدس وكان هو يطير فرحاً مع شعر سعيد عقل مستحضراً قدموس وأليسار.

الآن أنت بقيت في غربة الخارج وأنا عدتُ إلى غربة الداخل وصديقنا في عزلة راهب أو ناسك. لقد قررتُ أن أحدثك في رسائلي هذه عن مجريات الأمور بحيث لا نضيع مجدداً في شعارات تدغدغ المشاعر وتُعتم على الحقيقة. سأحاول في هذه الرسائل إثبات عدم دقة عبارات شاعت وأصبحت على كل شفة ولسان وتطرح كإحدى الحلول لمشاكلنا المزمنة مثل "مكافحة الفساد". في 16 حزيران، وبعد نحو 4 أشهر من تولي المسؤولية، أعلن رئيس مجلس الوزراء حسان دياب "الحرب على الفساد" وللحقيقة كان موضوع "مكافحة الفساد" في صلب البيان الحكومي. سنتكلم في المستقبل عن الحكومة وبيانها ولكن موضوعنا في هذه الرسالة الفساد وبعض الحلول.

يكتشفُ الباحث حين يتعمق في دراسة حالات الهدر للطاقات البشرية وثروات المجتمع أموراً لا تفسر بكلمة فساد. فلنستعرض مشهد القوى السياسية اللبنانية على تنوعها تتنافس على حقيبة يسمَونها "سيادية" وأخرى "خدماتية" وأخرى لا أحد يريدها. لو كانت الخدمة العامة شرفاً أو واجباً، لا تسلطاً ومصلحة، لما رأينا هذا المشهد وهذا التصنيف. فنحن على ما نحن عليه، ليس لأننا فاسدون، بل لأننا اخترنا أو أُجبرنا على قبول نظام ونُظم تُوزع المقدرات والقدرات والثروات بطريقة تدعم سلطة زعماء البلد وتُضعف بسط سلطة الدولة. فدولة المواطنة غير موجودة.

يمكننا القول إن عبارة "مكافحة الفساد" هي عبارة خارجة عن الموضوع ولا تُوَصّف الواقع. إذ أنها تفترض أن الجسم بخير وأن الفساد هو عارض طارئ تتم مكافحته كما نكافح الذباب، على سبيل المثال، بالمبيدات. لكن الأمر مختلف.

إذ إن ما درجنا على تسميته فساداً هو بالفعل "طريقة عمل" ونظام حياة توافقنا عليهما جميعاً. فالحالة التي نحن عليها في الولادات والزواج والإرث والوفيات والانتخابات والخدمات والوظائف والبنى التحتية والتي تعمل وفقاً لمعايير زبائنية وطائفية هي نظامنا السياسي. وحين يسطو أو يغتصب مواطن ما أملاكاً أو أموالاً عامة أو خاصة فهو سارق، بينما الفساد هو حين يشارك السياسي، الشرطي، أو القاضي، أو الزعيم في تغطية هذه السرقة. تخيّل لو قررنا تصنيف ما نراه وفقاً للمواد الجرمية في القانون اللبناني: اختلاس، سرقة، اغتصاب، ابتزاز، تزوير، سوء ائتمان، سطو، رشوة، لو فعلنا ذلك سنكتشف أن الفساد ليس الأكثر شيوعاً وأن الكثير مما نشكو منه يقع تحت هذه التصنيفات. إذاً لماذا هذا الكلام المفرط عن الفساد؟ عدم المعرفة أو التضليل؟  ولذلك من المستحب أن نطرح الأسئلة التالية:

السؤال الأول: هل هناك قرار سياسي وطني يهدف إلى ضبط "الهدر والفساد" كي لا نقول السرقة؟

السؤال الثاني: هل الزعماء على استعداد لتسليم "بعضاً" من سلطتهم إلى الإدارات العامة وتمكينها من القيام بدورها؟

السؤال الثالث: هل سيكف الوزراء عن التأثير السلبي على عمل الإدارة؟ وهل سيكف المدراء العامون ورؤساء المؤسسات والمحافظون عن تبعيتهم؟

السؤال الرابع: هل سيكف مجلس الوزراء عن اتخاذ مراسيم وقرارات تعارض ما جاء من ديوان المحاسبة وإدارة المناقصات ومجلس الخدمة المدنية؟

السؤال الخامس: هل هناك استعداد لإلغاء المراسيم والقرارات التي اتخذت خلافاً للقانون والدستور؟

السؤال السادس: هل هناك استعداد لإلغاء أو تعديل القوانين والمراسيم التي اتخذت لمصلحة أفراد أو شركات معينين؟

السؤال السابع: هل سيرفع الزعماء أياديهم عن القضاء ويقومون فعلاً بإرساء استقلاليته؟ وهل يعمل القضاة على تعزيز استقلاليتهم بالممارسة بدلاً من الشكوى؟

السؤال الثامن: هل هناك استعداد لاستحداث قوانين جديدة تعدل قانون الضريبة وقانون الانتخابات وقانون الأحوال الشخصية وقانون العمل لتحقيق دولة المواطنة؟

السؤال التاسع: هل هناك استعداد لإلغاء ودمج هيئات ومجالس ومؤسسات وإلحاقها بالوزارات المعنية؟

السؤال العاشر: هل هناك استعداد لمساءلة المرتكبين كائناً من كانوا؟

تذكر أن نتائج الانتخابات النيابية عكست في العام 2018 مدى ارتباط المقترعين بالقوى السياسية التي بدون دعمها لا يستطيع المواطنون والمواطنات الدخول إلى الوظيفة العامة أو الترقي فيها. فحياة الناس ومعيشتهم مرتبطة بالقوى السياسية الرئيسية وذلك في كافة شؤونهم اليومية وحتى في مصيرهم.

إن الكلام عن "مكافحة الفساد" يوحي لنا أن المشكلة هي في موظف الجمارك أو الشرطة وكافة صغار الموظفين في القطاع العام، بينما أساس الموضوع هو النظام الذي نحن فيه والذي لا يمكنه الاستمرار دون سطو الزعامات ومنظوماتها على الدولة.

أذكر يوم كنا في صدد الاعداد للتقرير التقويمي عن حالة الفساد في لبنان لصالح الدولة اللبنانية والأمم المتحدة في العام 2000 أن أشرت في حديث مع الدكتور سليم الحص وكان رئيساً للحكومة آنذاك: "يبدو أن الفساد بنيويٌ في هيكل الدولة اللبنانية" ليأتي جوابه: "لا... لا... إنه عضويٌ والكلمة التي استخدمها Organic" إذاً ليكن الحديث والعمل أعمق وأصدق من التحدث عن الفساد ومكافحته.

لقد حان الوقت لأن يرفع الزعماء وأتباعهم أياديهم عما هو عام ويبرهنوا أنهم فعلاً يريدون بناء الدولة على أن يتم هذا بنيوياً وبالممارسة وليس بالكلام.

ولتحقيق ذلك يتوجب العمل على تغيير النظام السياسي والاقتصادي في الضريبة وفي عقود العمل وفي الانتخابات وفي القضاء وفي الأحوال الشخصية، بحيث نؤسس طريقة حياة جديدة بدلاً من ترداد عبارة "مكافحة الفساد". إذاً، أي كلام عن إصلاح إداري دون الإصلاح السياسي هو مجرد كلام.

ولقد سألتني أيضاً عن الحكومة وعملها وهنا ندخل في الإجراءات التي كان على الحكومة اتخاذها ولم تفعل. طبعاً هي مقيدة الحركة ولكن ألم يكن يعلم رئيس الحكومة ماذا ينتظره؟ هل كان يعلم أن الفساد ومكافحته هو كما ذكرتْ؟ إذا نعم، فأية عدة أعد؟ وإذا لا فالفشل حتمي. باستطاعة الحكومة بدلاً من "إعلان الحرب على الفساد" أخذ الإجراءات والقرارات والمراسيم التالية:

1- قرار عن وزيرة العمل ينفّذ في خلال شهرين ويحصر ممارسة الأعمال التالية بالعمال اللبنانيين: محطات المحروقات- السائقون العموميون للسيارات والفانات- موظفو الاستقبال في الفنادق والمطاعم- صالونات التجميل النسائية- محلات بيع المواد الغذائية والسوبر ماركت- محلات بيع الأحذية والألبسة ومواد التجميل. وقد يؤدي هذا القرار إلى توفير نحو 40 ألف فرصة عمل كحد أدنى.

2- قرار عن وزير الداخلية والبلديات بإلغاء المعاينة الميكانيكية للسيارات للعام 2020 والتي خضعت للمعاينة العام 2019. هذا القرار يوفر نحو 35 ألف ليرة على كل صاحب سيارة.

3- قرار عن مجلس الوزراء: إلغاء محاضر الضبط التي نفذتها القوى الأمنية إبان فترة التعبئة العامة وشملت السيارات التي كانت تسير خلاف نظام المفرد والمزدوج والمحلاّت التي خالفت قرارات الفتح والإقفال.

4- قرار عن وزير الخارجية والمغتربين باستدعاء الطاقم الدبلوماسي غير الأساسي وغير الضروري من السفارات في الخارج ما يوفر إنفاق أموال بالعملات الأجنبية لا تقل عن 60 مليون دولار.

5- قرار عن مجلس الوزراء بإلغاء بيع البنزين والمازوت بسعر 1,515 للدولار واعتماد سعر السوق ما يحقق وفراً بنحو 3,000 مليار ليرة. وللحد من تأثير هذا الإجراء يتم تخصيص قسائم بأرقام كل سيارة خاصة أو عامة تمنح لسائق السيارة عند تسديده رسوم الميكانيك وتحدد القسائم بـبضع مئات من صفائح البنزين للسيارات العمومية وضعفها للفانات وعشرات الصفائح للسيارات الخاصة سنوياً وذلك وفقاً لمعايير تحدد المستحقين.

6- تشغيل النقل العام في بيروت الكبرى وتدريجياً في جميع المناطق بالتعاون مع البلديات وفقاً لبرنامج محدد بالأماكن والساعات وجعله الزامياً على الباصات والفانات.

7- قرار عن وزيري الداخلية والبلديات والطاقة والمياه بوضع اليد بالتعاون مع البلديات على المولدات الكهربائية التي توزع اشتراكات الكهرباء وبيع الطاقة المنتجة بسعر الكلفة ودفع تعويض شهري لصاحب المولد تبعاً لعدد المشتركين.

8- قرار عن حاكم مصرف لبنان بإلغاء قراره الرقم 13220 تاريخ 16-4-2020 والسماح لشركات تحويل الأموال بتسليم الحوالات الخارجية بالدولار وليس بالليرة.

9- مرسوم عن مجلس الوزراء بإلزام البلديات بالإعفاء من رسوم القيمة التأجيرية عن كل منزل تقل رسومه السنوية عن 150 ألف ليرة.

10- قرار عن مجلس الوزراء بفرض رسوم سنوية على كل عامل أجنبي بمقدار 10 آلاف دولار. وتستخدم هذه الإيرادات في تمويل صندوق لدفع إعانات البطالة للعاطلين عن العمل بعد إجراء إحصاء لهم من قبل المؤسسة الوطنية للاستخدام بعد فتح فروع لها في كافة الأقضية اللبنانية.

11- مرسوم بتقليص أعداد المرافقين الرسميين إلى النصف (نحو 2,000) وتحويل هذه الأعداد إلى الإدارات العامة لسد النقص وتسهيل المعاملات.

12-يقوم وزير الأشغال العامة والنقل بالاتفاق مع البلديات الساحلية بإنشاء مسابح شعبية وتجهيزها وإتاحتها مجاناً أمام العائلات اللبنانية.

13-بعدما تم رفع سعر ربطة الخبز الى 2000 والظلم الذي لحق بأكثرية اللبنانيين يجب معالجة مسالة انسانية وهي إدخال جميع عمّال الأفران إلى الضمان الإجتماعي، فهذه مأساة انسانية تطال أكثر من 15 ألف عامل وعلى التفتيش في الضمان القيام بعمله.

14-إلغاء مساهمة الدولة في نفقات المحاكم الروحية المسيحية وفك العلاقة وتمويل الدولة للمحاكم الاسلامية وهذا يحقق وفرا بنحو 32 مليار ليرة وهذا أيضاً مهم واساسي لتعزيز الدولة المدنية وإقرار قانون إختياري للأحوال الشخصية.

15-يعاني لبنان من مشكلة النزوح من الأرياف والقرى الى المدن واليوم نحو 85 % من سكان لبنان هم في المدن. الأزمة الحالية دفعت الآلاف للعودة إلى الأرياف وهذا الأمر قد يزيد في الأشهر القادمة. وهنا دور وزارة الشؤون مع البلديات لإطلاق مشروعات لتثبيت العائدين من خلال اعطاءهم حق إستثمار المشاعات لتوفير فرص العمل لهم.

16-لبنان لا ينتج إلا القليل، ومنذ العام 1990 وحتى شهر أيار الماضي استورد لبنان بقيمة 355 مليار دولار مقابل 65 مليار من الصادرات. من هنا ضرورة البدء بالتأسيس للإقتصاد المنتج وهذا يستغرق وقتا ولكن يجب ان نبدأ اليوم ومن مكان ما. لذا يجب تفعيل دور المشروع الأخضر فهناك مساحة 200 ألف هكتار قابلة للاستثمار بكلفة استصلاح لا تزيد عن 25 مليار ليرة. وهذا يمكننا من استخدام الجرافات والشاحنات المتوقفة نتيجة تراجع اعمال المقاولات.

17-إطلاق دورات سريعة للتدريب المهني لتوفير الحاجات المطلوبة وتخصيص كل طالب بقرض دراسي يُسترد بعد بدء عمله.

كل هذا ولم أذكر شيئاً عن "الأموال المنهوبة" أو كما أفضل استرداد حقوق الدولة والناس. وهذا حديث شائك وشائق وضروري. إذاً، لا يزال أمام الحكومة فرصة قصيرة لأن الوقت هو الأساس.

نعم، هذا غيض من فيض وسنناقش مسائل أخرى في الرسالة الثانية. بانتظار جوابك.

مع محبتي،

        جواد

اترك تعليقا