الخيمة  5

يقول ابن خلدون: «الكتابة آلة السلطان». ويقول ابن خلكان: «أمر السلطان مخرقة فإذا استوى بالكتابة أصبح سياسة». وهنا نأتي إلى خيمة المثقفين والإعلاميين والكتبة، وخاصة المنضوين تحت قنوات إعلامية سياسية تلتزم خط المصلحة والزعيم السياسي، والذين دونهم لا تكتمل مضارب لبنان. وهكذا، كان الطالب الصغير يستمع إلى مناقشات وأحياناً مشادات ثلاث، خيل له أن اصحابها (أو هكذا ادعوا)، «مثقفون» أحدهم يحمل راية «لبنان الفينيقي» والآخر «لبنان العربي» والثالث يسافر من موقع إلى آخر.

 

كان الأول يتكلم عن لبنان منذ آلاف السنين شارحاً عن أليسار صور، وأبجدية جبيل، وأعمدة بعلبك، وبيروت «أم الشرائع». فتصور الطالب أن لبنان بحدوده الحالية كان فينيقياً وعمره آلاف السنين وأن الأمة الفينيقية كانت تمتد من النهر الكبير الشمالي (وهو بالمناسبة ليس كبيراً) إلى الناقورة جنوباً. نحن إذاً فينيقيون.

 

كان المثقف الثاني يتكلم عن الجزيرة العربية واليمن «المرجل» الذي منه «جاءت شعوب لبنان والمنطقة» ولولا ذلك لكان لبنان  خاوياً من السكان. فـ«لبنان عربي» و«نحن عرب» و«الفينيقيون تجار وعبيد»، إلا إذا أقرينا أنهم عرب فيصبحون عندئذ  مهمين. نحن إذاً عرب.

 

أما «المثقف الثالث»، فكان يغيّر رأيه من مرة إلى مرة دون أن يفهم الطالب لماذا؟ إلى أن همس والده في أذنه أن هذا المثقف هو من ناحية «مضطر» ومن ناحية أخرى «طموح». فكلامه يتغير وفقاً للصحيفة أو القناة التي يعمل فيها وبحسب مواقف الزعيم، الذي لاقتناص الفرص، يؤيده هذا «المثقف» حيناً أو يؤيد خصمه في حين آخر. نحن إذاً حيناً فينيقيون وحيناً عرب. والفينيقيون حيناً فرنسيون وأحياناً أميركيون والعرب كذلك. ونحن حيناً في خندق واحد مع سورية ومع عبد الناصر وحيناً في خندق واحد مع بوش وساركوزي.

 

فتش الطالب في الوثائق ليتأكد، وراح يسأل: أمة فينيقية؟ ماذا عن الفينيقيين في شمالي أفريقيا وعلى الشاطئ السوري وتحديداً بجانب اللاذقية وماذا عنهم في فلسطين؟ وإذا كانوا أمة لماذا اتفقت صيدا مع الاسكندر ضد صور؟ (وعندها لم تكن صيدا سنية ولا صور شيعية) وماذا عن اكتشاف سهم كتب عليه بالأبجدية الفينيقية (الحاجي عباس)؟ إذاً كان هناك عباس قبل الشيعة، وزينب (زنوبيا) قبل الإسلام والعرب. وإذا جاء الجميع من اليمن (في الجنوب) فلماذا يا ترى كان الشمال، ومنه لبنان، فارغاً ولماذا كانت اليمن ملآنة؟ عرف مع الوقت أن كل هذا الكلام كان هراء.

 

 استمر يتساءل «جاء الفينيقيون»، من أين جاؤوا ومن كان قبلهم؟ «جاء الحثيون»، من أين ومن كان قبلهم؟ «جاء العرب»، إلى آخر المعزوفة، ففي هذه البلاد تجيء الشعوب ثم تذهب وكأنها تحط في مطار.

 

أليس الأصح التكلم عن حقبات تاريخية ودول وسلطات بدلاً من الكلام عمن «جاء» و«ذهب»؟ و الواقع أن الناس كانت موجودة ولم تذهب إلى أي مكان، بل تبدلت الأحوال واللغات، وهم مستمرون بعلمهم وجهلهم وطوائفهم وعشائرهم المتلوّنة وفقاً للظروف.

 

لكن الطالب الصغير ظل يحمل في قلبه رعشة لشيء اسمه عرب وإسلام. ولم يُشفَ إلى أن وصل إلى مطار أبو ظبي وراح يسمع صراخ الموظف في المطار بالإنكليزية ليجيبه الطالب بالعربية «نحن عرب»، وأنا أكلمك «باللغة العربية»، فيأتي الجواب «أنا مش عربي، أنا هندي» فيستنجد الطالب بـ «مواطن آخر» ليأتي الجواب «أنا مش عربي أنا إيراني». وعندما تكلم الطالب الإنكليزية تهيبه الجميع فأطاعوا.

 

عرف عندها أن الثقافات تتجاوز الجغرافيا، لكن في الجغرافيا دروساً. فكان أول عمل قام به، حين تمكن من ذلك، هو إرسال «المثقف العربي» الى ابو ظبي ليعرف أن الأرض «ما بتحكي عربي وأن الخوارزمي ليس عربياً،» و ارسال «المثقف الفينيقي» إلى تونس ليكتشف أن هنيبعل ليس لبنانياً.

 

أما «المثقف الثالث» فتعود أن لا يناقشه بل يمازحه، فالرجل يمثل ولا تستطيع إلا أن تهنئه على الدور الذي يؤديه.

 

«مثقفون»، «إعلاميون»، «خبراء» و«كلمة حرة»، ضعوهم جميعاً على طائرة وسفروهم خارج لبنان واطفئوا الكهرباء (دون مولدات) فهؤلاء إما جهلة أو موتورون، أو مأجورون.

 

وبين الجاهل والموتور والمأجور يصلب لبنان.

 

جواد نديم عدره

اترك تعليقا