الخيمة 4
روى لنا كتاب التاريخ أنّ الحرب بين الدروز والموارنة في العام 1860 اشتعلت بسبب عراك بين ولد درزي وآخر ماروني في بيت مري، وذلك في 30 آب 1859. أما حروب الأربعينات، يقول كتاب التاريخ، فقد بدأت بحادث صيد لطير أو حمامة أو دجاجة من قبل أحد موارنة دير القمر وذلك في حقل صيد عائد لآل نكد، وكان ذلك في 14 أيلول 1841. وهناك روايات أخرى تدور دائماً حول خلاف شخصين أو حادثة صيد. وهكذا، يبدو أنّ الزعماء المتحاربين والذين ساهم أحفادهم أو أتباعهم فيما بعد بكتابة هذا النوع من «كتاب التاريخ»، قد توافقوا على تبسيط المسائل الخلافية بينهم، بحيث يبدون هم المُصلِحون بين شعوب جاهلة تتقاتل حول أسخف الأمور.
هكذا يتبرأ زعماء السياسة والدين من جرائمهم ويضمنون إمكانية ارتكابها دائماً دون مساءلة.
نحن اليوم في خيمة الموارنة. ولكي نفهم حروب أربعينات وستينات القرن التاسع عشر، قد نضطر للعودة إلى نظام الذمة ودفع الجزية وهذا مهم للبحث (في وقت آخر). ولكن يبدو أنّ السبب الأساسي في تأجيج مشاعر الدروز ضدّ الموارنة والعكس، كان الأجنبي.
فالزعماء الموارنة ساندوا حملة محمد علي، وحاربوا معه، وبطشوا بالدروز في جبل لبنان وفي جبل الدروز وبشراسة. وقد اعتبر سيدهم البطرك آنذاك أنّه يساند فرنسا التي كانت تساند مصر، وكان الإنكليز بالطبع يساندون الدروز. ويروى الكولونيل تشرشل أنّ فرنسا دفعت للبطريرك حبيش في أوائل الأربعينات 20,000 ليرة (1) وشجّعته على شراء السلاح ومقاتلة الدروز. وينقل عن الكولونيل روز أنّ الرهبنة المارونية وبكركي كانتا على استعداد للتسبب بحرب أهلية في سبيل السيطرة على الجبل.
وكان ما كان، «والدروز عليم اللّه ما قصّروا»...
وعادت الكرّة في العام 1860، حين كان الصراع بين فرنسا وإنكلترا في أوجّه، وكان آل الخازن على اتصال بالإنكليز وعبرهم بالعثمانيين، وكان البطريرك بولس مسعد يكرههم، (يقال لأنه فلاح ولأنهم أرستقراطيون). ومرّة أخرى، تخيّل «الموارنة أنّهم أقوى مما هم على الواقع»، كما يقول تشرشل، ومرّة أخرى «الدروز عليم اللّه ما قصّروا».
هل تعلمنا أو تعلّم زعماء الموارنة دروساً ما من هذا؟ طبعاً لا، «فرنسا أمنا الحنون، واعتزوا يا لبنانيي!»
ولم يعتز اللبنانيون الموارنة طبعاً كما اعتزوا في العام 1920 يوم أعلن غورو قيامة لبنان الكبير.
وكانت الخيارات ثلاث: بقاء جبل لبنان بحدوده الجغرافية أبان السلطنة العثمانية أو ضمّ مدن طرابلس، صيدا وصور إليه والأقضية الأربع، أو انضمامه إلى دولة فيصل العربية وعاصمتها دمشق.
قيل لنا:اختار البطريرك الياس الحويك الخيار الثاني. وعاش زعماء الموارنة عهدهم الذهبي مواصلين خلافاتهم واتصالهم بالأجنبي والاستقواء به على الطوائف الأخرى وعلى بعضهم.
وكان هناك اتصالات ومعاهدات مع الوكالة اليهودية كالسعي لوطن مسيحي في لبنان بالتوازي مع وطن يهودي في فلسطين وذلك برعاية البطريرك عريضة والمطران مبارك وبمؤازرة الأطراف السياسية المارونية المتصارعة (2).
وقد علّق زعماء صهاينة على أنّهم شعروا بالإحراج أنّ الأطراف المتصارعة المارونية كانت تتصل بهم وإذ سرّهم ذلك، فإنهم لم يجدوا مصلحة في تأييد طرف معين دون الآخر. أما بناء لبنان الدولة فبقي كلام بكلام.
ورغم سعي البطريرك عريضة الحثيث لإعلاء شأن الموارنة، وفقاً لما يراه، فإنّه لم يتمكن من رأب الصدع مع أهالي زغرتا، هو الآتي من بشري، فكانت مظاهرات في الشمال تردد:
«البطرك عريضة تركنا
وعبد الحميد كرامي بطركنا!»
وظلّ إميل إده أداة يؤيد فرنسا وبشارة الخوري إنكلترا.
ولقد تميّز البطريرك معوشي في الخمسينات عمن سبقه بمحاولته رأب الصدع مع العرب أو العروبيين، ربّما بسبب خلافه مع كميل شمعون. فكانت هناك مظاهرات تردد:
«وفود الجبل والساحل جايي تحتج
بدنا بطرك ببكركي ما بدنا حج!»
وفي العام 1975، روى كميل شمعون وبيار الجميل إلى ريمون إده أنّ وقت الحسم قد حان وأن هذه المرة «سيكون معنا دولة مجاورة». ولما سألهما من؟ قالا إسرائيل.
ولكنّ كميل شمعون تميّز عن الآخرين جميعاً بصراحته حين التقى بيغن في منزله في القدس وأخذه جانباً ليقول له: «دعك من الضفة وغزة، لا ترتكبوا خطأنا»، مذكراً بأنّ دولة لبنان الكبير ما كان يجب أن تشمل الشمال والجنوب والبقاع، ناصحاً إياه «بتخفيف الحِمل». وأكمل يقول له أنّ الخيار لم يكن للبنانيين بل أنّ «الفرنسيين أجبرونا على إضافة تلك المناطق»، وكان ذلك في العام 1978 (3).
وأيضاً لعلّ الوقائع التي أوردها بول عنداري في كتابه «هذه شهادتي»و«الجبل... حقيقة لا ترحم» (4)، ما يعبّر عن دور الأجنبي (هذه المرة الإسرائيلي)، حين قال الضابط الإسرائيلي إلى ممثل القوات: «سننسحب واقتلوا بعضكم.» ويورد عنداري لائحة بنحو 117 قتيلاً من مقاتلي القوات اللبنانية، قتل معظمهم بين 4 و5 أيلول 1983، ليقول:
«ما من صليب سيرتفع من دون سيف
وما من سيف سينتصر من دون صليب»...«كلّ شيء يتوق إلى اللّه»
لنتعمق جميعاً في هذه المعاناة الصادقة من ناحية وفي هذا الانفصام المرعب من ناحية أخرى.
وما دمنا في الحرب الأهلية، فلنقرأ ما كتبته رجينا صنيفر في كتابها «ألقيت السلاح» (5)، والذي يبدو أن قتل المسيحي للمسيحي أو بالأصح الماروني للماروني وليس القتل بحدّ ذاته الذي دعاها لزيارة البطريرك صفير في 1986 لتقول:
«بصوت مرتجف، أخبرته عن المختفين والجثث المكبّلة بالأثقال التي ترمى في البحر. لم يظهر أي تعبير على وجه البطريرك. تابعت الكلام وكان لدي الانطباع أنّ كلماتي تنطفئ في هذا الديكور الثلجي. وتبعت ذلك فترة طويلة من السكوت... وفهمت أنّه حان وقت الانصراف.»
وقد نقل بول عنداري عن شارل مالك (مرشده الروحي) قوله في دير مار موسى الدوار في تموز 1981:
«إني أجزم أنّ ما سيقرره المؤرخون في جامعات فرايبورغ... واكسفورد... وهارفاد في السنة 2030 هو أن هذه الحرب كلّها دارت حول مصير المسيحية الحرّة في لبنان... هل لنا نحن المسيحيين الأحرار، مستقبل بعد في لبنان؟ هذا هو السؤال!»
نعم لنا جميعاً مستقبل حين نصبح مواطنين وعلمانيين نؤمن بالديموقراطية الحقيقية، ولا نتقاتل بسبب دجاجة أو مقعد نيابي أو وزاري، ولا نقوم بقداس على نيّة فرنسا ولا نسمي شوارعنا بأسماء من احتلنا بدءاً بشوارع غورو وفوش وكليمنصو.
وعندما نسأل كيف يبرر القتل باسم المسيح، وخاصة من أمثال شارل مالك وبعض كبار رجال الدين الموارنة. وحين نفهم أنّ ما يسمى الانقسام المسيحي اليوم ليس جديداً، فقد كان بين آل الدحداح وحبيش والخازن في القرن التاسع عشر، واستمر بين بشارة الخوري وإميل إدة وريمون إدة وكميل شمعون وفؤاد شهاب وسيبقى... ولعلّ السبب أنّ المسيحيين ليسو شعباً واحدا وليسوا جماعة منعزلة بل فيهم أطياف وقدرات كما في كل البشر، لكن زعماءهم فشلوا في بناء الدولة حين جاءتهم الفرصة.
هل هناك من يتمكن من رسم أفق جديد، أم أنّ الخيمة ستسقط على رؤوس أصحابها؟
(1) (Affairs of Syria, London, Printed by Harrison and Sons) لنفهم حجم هذا المبلغ، علينا أن نتذكر أنّ أجر الفلاّح اليومي كان 1,2 قرش مما يعني أنّ 20,000 ليرة تساوي ملايين الدولارات اليوم.
(2) لورا زيتراين ايزنبرغ، «عدوّ عدوّي»، ترجمة فادي حموّد، الطبعة الأولى 1997
(3) دايفد كميخي، The Last Option (الفرصة الأخيرة)، 1991
(4) مسؤول عسكري سابق في القوات اللبنانية، له كتب «هذه شهادتي» (2006) و«الجبل...حقيقة لا ترحم» (1999)
(5) رجينا صنيفر، «ألقيت السلاح»، باريس 2006
اترك تعليقا