وطـن القش

 

لن أتزوّج إلا مارونياً، قالت لي زميلتي حين وجدَت أن أعداد الموارنة على تراجع وكذلك نسبتهم في لبنان. «نحن الشيعة كتار فما في خوف» قالت الزميلة الأخرى، و«نحن السنّة لسنا قلال، أنظروا إلى عكار»، قالت الأخرى.

لعلّ ردّة الفعل العفوية هذه تفسّر أموراً كثيرة منها تراجع نسبة المؤيّدين للزواج المدني من 64.5% وفقاً لاستطلاع أجرته الدولية للمعلومات في عام 1999، إلى 30.2% وفقاً لاستطلاع آخر أجري في شباط 2007.

نحن نشهد اليوم نهاية لبنان الذي عرفناه (أو عُرِّفنا اليه)، ولنا في الديموغرافيا البرهان القاطع. فبعد أن «حاز» «الدروز» و«الموارنة» أغلب لبنان 1860، يبدأ «السنّة» و«الشيعة» اليوم طريقهم «للحوز» على كامل لبنان تقريباً في القرن الواحد والعشرين. وواقع الأمر أن أحداً لم يحز  ولن يحز على شيء، فالزعماء تُقتَل أو تتوفى، والناس تُهَجّر وتَهْجر أو تقتل، والأزمة ستستمر.

وبعد عشرات السنين، سيشكّل الشيعة نحو 44.8% من لبنان، والسنّة نحو 36.6%، والموارنة نحو 6.9% أو أقل، هذا اذا احتسبنا لهم نسبة نموّ مرتفعة. ولن يكون مصير لبنان أفضل حالاً مع الزعماء الشيعة والسنّة مما كان قبلاً مع الزعماء الدروز والسنّة والشيعة، فالطوائف تأكل بعضها وذاتها. فالنظام في لبنان كان يجدد ذاته عبر إستقدام «مسيحيين» عرب وأجانب، وحرمان «مسلمين» لبنانيين الجنسية قبل الطائف لتُعكَس الآية بعده. ومن أدوات تجدد هذا النظام أيضاً الحروب والهجرة والعمالة الأجنبية والعربية والدين العام.

وما دمنا في «السنّة» و«الشيعة» اليوم فلا بأس من استذكار أواخر الخمسينات حين أُستقدم الامام الصدر إلى لبنان في لعبة تقتضي الاستقواء من قبل «الماروني»  «بالشيعي» في مواجهة «السنّي» وكان آنذاك شاه ايران هو الحاكم وليس أحمدي نجاد. وبعد الطائف أُستقدمت عبارة «أهل السنّة» وحركاتهم للاستقواء على «الشيعة»، الذين أصبحوا اليوم أقوياء.

ان المصالح الاقليمية والدولية لا تحب او تكره طائفة ما بل تؤكد مصالحها. أما «مصالح» الطوائف فهي انتحار لها وللوطن.

لقد انتهى لبنان التعايش. ولعلّ المأساة في هذه النهاية تكمن في تبخّر وهم «التنوّع» الذي كان يمكن أن يصبح ثقافة غنية، لولا زعماء غرائزيين في مصالحهم الذاتية حتّى الانتحار، ولولا التدخلات الخارجية. مجتمع يشيخ، شباب يهاجر، إنتاجية  يتراجع، عائلات تتفكّك وتضمر، فماذا أعددنا من خطط خارج تفاهات العشائر والطوائف وزعماء الحروب؟

 

نخسر كثيراً حين نغرق كلّ في عشيرته، وإذ بتنوّع مزعوم يصبح انتحاراً بطيئاً. وإذا كانت إسرائيل قرّرت أن حلّ مسألة «الوطن اليهودي» يكمن في تهجير الناس وجذب يهود الخارج، فإن هذه السياسة في لبنان لم تنجح وهي لن تنجح في إسرائيل على المدى الطويل. ولعلّ الاستنتاج الآخر أنه حتّى الكانتون الصغير لن يشكّل إنقاذاً، فهو صغير لدرجة يصعب عليه الاستمرار ديموغرافياً ومقسم اكثر مما هو «متجانس». فنظرية «التجانس»، وكما أظهرت انتخابات المتن، وهمفالموارنة ليسوا وحدةً اجتماعية متجانسة، والشيعة والسنّة ليسوا كذلك أيضاً. والتجانس لن يكون إلا عبر بناءالوطن - الدولة ، وذلك بفصل الدين عن الدولة وفي أدقّ التفاصيل، من الولادة إلى الموت.

فصل الدين عن الدولة يحفظ الدين ويحفظ الدولة. أما دون ذلك فزعماء قش وطوائف قش وثقافة قش ووطن قش.

 

انتهى لبنان الذي عرفوه وقد يبدأ لبنان الذي نريد.

 

جواد نديم عدره

 

* يُقصد بنظريّة «فزّاعة القش» استخدام حجج الآخرين بغير المعنى المقصود منها فيشكّ الناس في بعضهم البعض، وتساق الاتهامات. وفي التدريبات العسكرية توجه بنادق الجنود إلى «رجل القش»، كمجسم للعدو ، كما حصل ويحصل بين الطوائف في لبنان بتخطيط الزعماء وتحريض منهم.

اترك تعليقا