مختبر وملعب
يشكّل لبنان مختبراً مهمّاً لعلماء الاقتصاد والاجتماع والسياسة وللعاملين في حقول الدبلوماسيّة والاستثمار والتسويق والمخابرات، وكذلك لأهل الغناء والرقص. بالنسبة إلينا، هو منجم أبحاث ولكنّنا ننتمي إليه. وفي حين يجب على الباحث أن يكون متجرّداً وموضوعياً، المواطن (في شخصيّة الباحث) يحزن ويغضب. يحزن حين يرى أنه قتل في عامين نحو 1,500 مواطن، أي ما يعادل، تبعاً لعدد السكّان، نحو 100 ألف في أميركا، أو 23 ألفاً في فرنسا، أو 25 ألفاً في إيران، أو 6,600 في سورية. أما بالنسبة إلى الجيش اللبناني ففقد نحو 72 (2) عنصراً منه في شهر، ما يساوي خسارة 1,750 عنصراً بالنسبة إلى الجيش الأميركي، أو نحو نصف ما فقده الأميركيون من جنودهم خلال أربعة أعوام في العراق. ويغضب حين يرى قادة هذا البلد يرفضون التعلّم من التاريخ ويصرّون على السير نحو الهاوية.
منذ العام 1995 ونحن نجري استطلاعات للرأي، إضافة إلى دراسات عديدة، وقد تكّونت لدينا قاعدة معلومات لنحو 100,000 مستطلع. وهذه بعض الاستنتاجات:
أولاً: يملك اللبنانيون ذاكرة، فهم يذكرون مذابح 1840 و1860 (خاصّة إذا كانوا دروزاً و مسيحيين)، وكذلك الحرب الأهلية الأخيرة، لكنّهم لم يجروا بحثاً أو مصارحة حول الأسباب الحقيقية، ولم يختاروا مسار المصالحة والغفران.
ثانياً: يملك اللبنانيون ذاكرة انتقائية، فهم يستحضرون الماضي لتدعيم مواقف معيّنة حاضراً والعكس صحيح، والأمثلة على ذلك كثيرة.
ثالثاً: يتبع اللبنانيون (في غالبيّتهم) زعماءهم لأسباب مختلفة. ويعمل هؤلاء الزعماء ضمن نظام مصمّم لدعم مصالحهم وإثارة الخوف بين اللاعبين، ويصبح اللبنانيون بالتالي طائفيون لأن زعماءهم كذلك.
ويعني ذلك أن اللبنانيين عمليون، فهم يختارون أوضاعاً تناسبهم أو يتكيّفون وفقاً للظروف. ويعني أيضاً أن اللبنانيين قدريون، فهم يعتقدون أن الظروف أقوى منهم، وما عليهم إلا التكيّف معها لتخفيف الأضرار أو تحسين أوضاعهم الفردية.
هناك أيضاً ملاحظات أخرى:
-1 النظام اللبناني محكم الإغلاق وديناميّته تضع اللاعبين في موقع يستطيع الباحث أن يترقّبه أو يحزره قبل حدوثه. «فالشيعة» في السبعينيات وأوائل الثمانينيات، الممثّلين بحركة أمل آنذاك، كانوا أقرب إلى اليمين منهم إلى اليسار، «كالسنّة» الممثّلين بتيّار المستقبل اليوم مع بعض الفروق المهمّة.
-2 لا يفتقر اللبنانيون إلى القدرة على أن يفاجأوا دوماً. فهم، رغم أنهم محكومون بحقوق وواجبات وفقاً للنظام الطائفي في ولادتهم وزواجهم ووفاتهم، ينكرون أنهم طائفيون، ويفاجأون حين تصدر تعابير عنصرية أو نابية عن أفراد أو زعماء، كما «يفاجأون» بالحروب الأهلية، وبتردّي الأوضاع الأمنية والاقتصادية، وبالهجرة.
-3 اللبنانيون أفضل من زعمائهم. وبالإشارة إلى الحديث الشريف «كما تكونوا يولى عليكم»، فمن ولّي عليهم هو أسوأهم. وتظهر إجابات اللبنانيين في استطلاعات رأي عدّة إصرارهم على تفادي المشاكل، فهم غالباً ما يريدون من زعمائهم إيجاد حلول لا حروب.
موضوعنا اليوم هو شيء آخر... كيف يرى الفلسطينيون واللبنانيون الأزمة الحالية؟ مرّة أخرى سيفاجأ اللبنانيون بالمخيّمات التي اعتبرناها غير موجودة، وبالفلسطيني الذي حرمناه حقّ العمل والتمتّع بحقوق مدنية، والذي لا يرى الأمور كما يراها ابن طرابلس على سبيل المثال...
ووفقاً لدراسة قام بها معهد فافو(3)، يعيش فلسطينيو لبنان وضعاً أسوأ من الذي يعيشونه فلسطينيو سورية أو الأردن، فهل نفاجأ بأن الوضع تفجّر؟
استطلاعنا في هذا العدد، وهو استطلاع تأسيسي (Benchmark Poll)، قد يسرّ البعض أو يغضب بعضاً آخر، ليعود فيُغضِب من سُرَّ ويسرّ من غضب. للذين توقّعوا أن يضعف تيّار المستقبل في طرابلس بسبب أحداث نهر البارد، الجواب لا. لا يزال تيّار المستقبل الأول في طرابلس (54%). للذين توقّعوا أن تكون المخابرات السورية هي المتّهمة الأولى بأحداث نهر البارد، الجواب نعم في طرابلس، ولكنّه لا في صيدا وفي المخيّمات.
هل تتمتّع الحركات الإسلامية بتقبّل وانتشار في طرابلس؟ الجواب محيّر، فنحن نعرف أنّها هناك، ولكنّها ليست ظاهرة إحصائياً، فهي تتماهى حيناً مع تيّار المستقبل وأحياناً مع «لا أحد». وكأنّها لم تكن موجودة بالقوّة التي تصوّرناها أو أنها تتستّر أو تضعف. هناك حاجة إلى مزيد من الدراسات. هل الحركات الإسلامية تتمتّع بتقبّل وانتشار في صيدا؟ الجواب نعم مشروطة، ولكنّها لا تتستّر.
هل هذه الحركات متطرّفة جداً؟ هناك حاجة إلى مزيد من الدراسات.
هل تتمتّع الحركات الإسلامية بانتشار وقبول في المخيّمات؟ الجواب نعم... هل تتمتّع الحركة المتطرّفة بالقبول نفسه؟ هناك حاجة إلى مزيد من الدراسات أيضاً.
في الاستطلاع الكثير من الأرقام والنسب التي يجب التوقّف عندها والتفكير بمدلولاتها، ففتح الإسلام هي «نتيجة حرب العراق والحروب الإسرائيلية»، وفتح الإسلام «غير مسؤولة عن تفجيرات بيروت» وهي «منظّمة إرهابية» لدى نحو نصف المستطلعين. لكنّها أيضاً منظّمة إسلامية لدى نحو 40% منهم. الأمن في المخيّمات يريده الفلسطينيون «أمناً ذاتياً فلسطينياً». يوالي الفلسطينيون منظّمة فتح بنسبة كبيرة تفوق موالي حماس، ونحو نصف الفلسطينيين يريد البقاء في لبنان في حال تعذّرت العودة.
قد يبدو لبنان للمستطلعين ملعباً أكثر منه مختبراً. أن نكون ملعباً ومختبراً في الوقت نفسه هي حالة متفجّرة ومحزنة.
يظهر اللبنانيون إصراراً على ألا يكونوا فئران اختبار لمشاريع مرتبطة بأطماع زعمائهم المحلّيين والزعماء الإقليميين والدوليين. ولكن هذا الإصرار يلزمه الكثير ليترجم إلى إرادة وفعل، وهو اليوم مجرّد حالة لباحث مهتمّ.
(1) الكلمة التي وزّعتها “الدوليّة للمعلومات” خلال المؤتمر الصحفي (19 حزيران 2007) الذي أعلنت خلاله نتائج استطلاع آراء الفلسطينيين في المخيّمات وآراء اللبنانيين في طرابلس وصيدا حول الأوضاع الحاليّة في المخيّمات الفلسطينية وفي لبنان.
(2) ازداد العدد إلى 97 عنصراً حتّى 16 تموز 2007.
(3) معهد فافو للدراسات الدولية التطبيقيّة وهو على رأس معهدين للأبحاث في النروج.
جواد نديم عدره
اترك تعليقا