شو بيبقى بدون عاصي، فيروز وزياد

يتبادر أول ما يتبادر الى الذهن اسم الأخوين رحباني وفيروز وزياد حين تُسأل عن أهم ظاهرة إبداعية في لبنان منذ العام 1943. وقفت الموسيقى في مشرقنا العربي عند التراتيل السريانية لقرون عديدة قبل أن تنتعش مع زرياب في الأندلس في القرن التاسع ميلادي. أما قدود حلب والعراق، فقد حصدت جماهيرية واسعة في أوائل القرن العشرين، كما كان للسيّد درويش وعبد الوهاب وغيرهم بصمتهم المتميزة على الساحة الموسيقية. لكنّ المساهمة الأغنى للموسيقى في العالم العربي، أتت على يد عاصي الرحباني الذي أيقظ الموسيقى وطوّرها وأبدع مسرحاً غنائياً وكلمات عشنا عليها فدخلت قاموسنا اليومي. فلولا فيروز ليس لنا شيء نستمع إليه مع أطفالنا إلا ترانيم النوم الرائعة التي تمتمتها لنا جدتنا أو اذا شئنا "بوس الواوا"، كإبداع في الموسيقى وفي أصول التربية.

لقد غدت فيروز رمزاً للوحدة في مشرقنا العربي، نغماً ومسرحاً ولغةً تُردِّد أصداؤها شاميات وأندلسيات وعودة إلى فلسطين في بيئة أتاحت مجالاً للإبداع في الخمسينات والستينات. أما في لبنان فخيّل لكل من الأحزاب والتجمّعات أنها تنشد له فغنّى السوريون القوميون معها في الستينات "منكفي بلّي بقيوا.." و وانتفضت جوارح الجيش اللبناني مع "خبطة قدمكن على الارض هدّارة". أما التيار الوطني الحر، فردّد بمنتهى الحماسة "بكرا برجع بوقف معكن"، كما كان "لتراب الجنوب" عميق الأثر في أوساط حزب الله وحركة أمل. هزّت "لبيروت" وجدان الموالين للمستقبل ولم يكلّ الاشتراكيون يوماً من ترداد "يا قمر مشغرة" ولا القوات اللبنانية من ترداد "طلعنا على الشمس". لكنّ الأهم يبقى الانتاج المبتكر في الموسيقى بعد طول سبات، فتصبح المقامات والألحان والكلمات سمفونيات لتاريخ وموسيقى هذه البلاد.

نعم، لقد غدت أغنية "بحبك يا لبنان" بمثابة نشيد وطني تصدح به حناجر اللبناننين من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب مروراً بالبقاع وجبل لبنان، ويسمع صداه في الأروقة والزوايا في كل بيتٍ وحيٍ لبناني.

أما مسرحيات زياد فقد نالت الإعجاب والإجماع في الوطن وخارجه، حتى عند منتقديه، وقد لا تجد مواطناً واحداً في هذا المشرق الممزق (وأحياناً خارجه) لا يأخذ من كلمات أو ألحان زياد مرتكزاً أو تشبيهاً لأمر ما.. وفي هذا الإطار لا بدّ من الإضاءة على ما قاله أنطون سعادة (1) حول الرابط بين السياسة والإبداع الفني والأدبي، وإن كان في ذلك ذهولٌ لدى البعض:

"..لأنه (أي الموسيقي أو القائد السياسي) كان موقناً لمزايا الحرية والسلام والمحبة المتأصلة في قومه، وهو لم يكن يرمي، من وراء ذلك، إلى غرض سياسي، بل إلى ما هو أعظم شأناً وأكثر فائدة من الغرض السياسي. إنه كان يرى الفورة السياسية أمراً تافهاً اذا لم تكن مرتكزة على نفسية متينة يثبتها في قلب كل فرد، سواء كان رجلاً ام امرأة، شاباً أم شابة، أدب حي وفن موسيقي يوحد العواطف ويجمعها حول مطلب أعلى حتى تصبح ايماناً اجتماعياً واحداً قائماً على المحبة، المحبة التي اذا وجدت في نفوس شعب بكامله اوجدت في وسطه تعاوناً خالصاً وتعاطفاً جميلاً يملأ الحياة آمالاً ونشاطاً. حينئذ يصبح الجهاد السياسي شيئاً قابل الانتاج، وأما الوطنية القائمة على تقاليد رجعية رثّة، فهي شيء عقيم ولو أدت الى الحرية السياسية..." ولذا توجّب السؤال: لماذا لا نسمع ونرى فيروز على تلفزيون المنار؟ أوليست هي دفء لبنان وثلجه، وبردى، والقدس، وبغداد والشام؟ أم أنها "عصفورة الشجن دون وطن"؟

غيّب عاصي وفيروز وزياد عن لبنان واسأل ماذا تبقّى؟

 

جواد نديم عدره

اترك تعليقا