السيّاب في الشعر الحديث

"في ضوء الكلمة التي تركها بدر شاكر السيّاب نلتقي اليوم، وهي كلمة أرادها جديدة. وإذا عرفنا أن السيَاب نشر في لبنان، صدفةً أو قصدا، اجمل قصائده، رأينا أن للقائنا هذا تحت سماء لبنان معنى جديداً آخر.

ولا بد من الإشارة إلى أن الجديد الحقيقي في شعر السيّاب، ليس ما يدور عليه الكلام في معظم الأحيان، من خروج على الشكل الشعري القديم، واعتماد التفعيلة أساسًا لإيقاع القصيدة. فمثل هذا الخروج لا يشكل بحد ذاته قيمة شعرية، مع أن له أهميته التاريخية التي يعنى بها النقَاد ومؤرَخو الشعر.

فالسيَاب في تجديده لم يقف عند الشكل الخارجي، بل سرعان ما تخلى عن المغامرة في هذا المجال إلى المغامرة في ارتياد فضاءات بكر، في ابتكار عالم جديد، موكداً على المضامين الجديدة والنظرات والمواقف الجديدة، وفي طليعتها نظرته إلى الشعر والشاعر في دوره الجديد. إذ لا بد من "تعريف جديد للشاعر" في ضوء مفاهيم العصر، مفاهيم الثورة والإبداع. هكذا اعتبر السيّاب الشاعر رائياً يلهم القيم، يبعث قبس الرفض، يستقطب بحساسيته مشكلات الإنسان، يرسم في دخيلائه ملامح العالم الجديد. لذلك عرَف الشاعر عام 1957 قائلاً: "لو أردت أن أتمثَل الشاعر الحديث لما وجدت اقرب إلى صورته من الصورة التي انطبعت في ذهني للقديس يوحنا وقد افترست عينيه رؤياه وهو يبصر الخطايا السبع تطبق على العالم كأنها أخطبوط هائل. وقد كان الشعراء على مر العصور أنماطا من القديس يوحنا."

فما هو الباعث على التجديد عند السيَاب، وما هي لغته الجديدة والقيم التي مثلها في شعره؟
من قلب ارض عريقة في الكآبة والحرمان، مبطنة بالشعر والتاريخ، ومع تباشير الوعي القومي والحضاري، ارتفع صوت السيَاب، وبدأ الانعتاق. نحن نعيش زمن الثورة في الشكل والداخل. ارض تتململ، وكل شيء فوقها معرَض للزعزعة، حتى قوالب الشعر ومفاهيمه. وشاءت الصدف الفنانة أن يباشر زلزلة الأوزان والأشكال الشعرية القديمة شاعر من البصرة وطن الخليل بن أحمد (718-786) الذي رسّخ تلك الأوزان والأشكال، لكن بين أيام الخليل وأيام السياب مر تاريخ من المجد والابتكارات، تلاه تاريخ من استباحة القيم الإنسانية والويلات.

مرت سنابك التتار على وجوهنا دافعة بنا إلى القرار. ثم ذات قرن باغتنا عصر التحرر والتمدن في عقر سباتنا فمادت تحتنا ارض المفاهيم وتزعزع استقرار العالم في وعينا ووعي الشاعر خاصة. أفلا تتزعزع النظرات الجمالية؟ يقف الشاعر بين أنقاض الحاضر ومجهول المستقبل، وعليه أن يكون علامة الحياة والبقاء في هذا الزمن الفاجع، أن يبني من حجارة العالم المتداعي أرضه الجديدة. وسيكون السيّاب أمينا لدور الشاعر الجديد كما رآه ووصفه. سيحاول في شعره أن يغير العالم، أن يبنيه من جديد، أن يعيد إليه نظاماً ما. سيبحث عن ارض الخلاص في مكان ما، في زمن ما. هكذا رأى فردوسه المفقود في عالم الأسطورة، في طفولة الإنسان، في البراءة والعفوية، راجعاً إلى الجذور، إلى الأصالة، إلى المواقف الأولى، إلى اللقاء الأول بين الإنسان والكون، ماحياً خطيئة المدينة المادية والاستعباد،رافعاً رايه الروح البتول. من هذا السديم سيبني عالمه، "إذ لا شعر حيث لا خلق".

لكن إذا كان الشعر كالحلم وليس واقعاً كما يرى هيدغر أيضا، فكيف ألف شاعرنا بين الواقع الذي يستحق حواسه، والحلم الذي يختزن الشعر؟ لم يكن هذا التأليف عسيراً على السيَاب. فقد اخترق بحساسيته الحواجز، تسرَب إلى طبقات الحلم غازياً متغلغلاً في اقاصيها محتضناً واقعه..."

اترك تعليقا