أنطوان بطرس - الأخلاق والأعمال

صاحبنا هو السيد كاظم بن قاسم الحسيني الرشتي في سروان من قرى الرشت في العراق، وكان في  الخامسة والعشرين من عمره حينما كتب  “رسالة السلوك في الاخلاق والاعمال”. وكانت مكتبته المتوارثة ابا عن جد من اضخم المكتبات العلمية في العراق. 

وقد اتحفنا مؤخرا المعهد الالماني للأبحاث الشرقية في بيروت بهذه الرسالة وقد حققها د. وحيد بهمردي، الأستاذ في دائرة العربية ولغات الشرق الادنى في الجامعة الاميركية في بيروت، وقد استند في عمله اعتمادا على ثلاث مخطوطات لهذه الرسالة . 

وبحسب محقق الرسالة فهي تقع ضمن سلسلة المؤلفات التي تتناول الاخلاق في بعدي العبادات و المعاملات. فهو لا يطرح فلسفة اخلاقية بل رأياً في علم الاخلاق ترتكز على مبادىء دينية وليست فلسفية وترمي الى تطبيق الشريعة بكل حذافيرها من اجل بلوغ السعادة الدنيوية والاخروية وانكشاف الحقائق المعنوية للبصيرة مع ضرورة الالتزام بالشريعة. لكن هذا الرأي يتعارض تماما مع الرأي الصوفي القائل “ لوظهرت الحقائق بطلت الشرائع” بغض النظر عن المراحل السامية التي قد يبلغها السالك في مراتب علوم الحقيقة،

ولعل من افضل اقوال الرشتي واكثرها سحرا ومنطقا يختصر كثيرا من المناقشات التي تتحدى الفكر في جميع الازمنة والعصور ان الله سبحانه “سبب كل ذي سبب، ومسبب الاسباب من غير سبب”. فلا يناقشن احد هذه المسألة والله جعل لكل شيء سببا عاما وسببا خاصا “واننا لا نحتاج الى الأئمة  لأن القرآن فيه بيان كل شيء.”

لكن هذه العبارات اثارت حفيظة الفقهاء الذين كانوا يعتقدون بضروة وجود مرجعيات يقلدها المؤمنون وتكون هذه المرجعية مسؤولة عن توجيه حياتهم بكل تفاصيلها بناء على قاعدة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر. 

كانت الغاية المعنوية التي ترمي اليها الرسالة التنبيه الى ان “الخلق اخذتهم برودة الادبار فانجمدت قرائحهم وانخمدت غرائزهم ... فانخمدت نار الشوق الى الله في مجمر قلوبهم فلا بد من تهيّج تلك النار وازالة ذلك الغبار”. 

بداية السلوك الى الله التفكير في عظمة الله وحقارة النفس. ان يستشعر الساعي الى ما يهيج روحه، ان يبحث عظمة الله دائما في قلبه. فاذا نسب المرء نفسه الى جبل شامخ، وجد نفسه بالنسبة إلى الجبل كالذرة، اما اذا كان على قمّة جبل فانه يرى الذي تحت الجبل صغيراً جداً. ونسبة اعظم الجبال الى كل الارض كنسبة ُسبْع عرض شعيرة الى كرة قطرها ذراع. والارض اصغر من الشمس بمائة وثمانين مرة وهي مركوزة في جزء من اجزاء الفلك. ونسبة هذه القطعة الى كل الفلك لا يقاس من الصغر. فاذا نظر المرء نسبة نفسه الى عظمة الله فاذا كان مضمحلا عند الجبل المضمحل عند الارض المضمحلة عند فلكها المضمحل عند الكرسي المضمحل عند طبقة من طبقات العرش المضمحل ... فما اصغر قدر الانسان واحقر مقامه بالنسبة الى سائر المخلوقات الفانية الصغيرة الزائلة؟

على الساعي ان يتابع وينظر الى نفسه للتفكر في حقارة النفس. اذا نظر الى باطن جسده وداخل جلده لما وجد شيئا طاهرا طيبا. فكل ما يخرج منه اما نجس كالبول والغائط والدم والمنى، او كثيف رديء خبيث يتكرّه الانسان من ان يباشره كالصديد والبصاق. فان تناول المرء الطعام الطيب اللذيذ حسن الرائحة، فإذ صار في فمه ومضغه فلينظر كيف يؤول امره وحاله. فاذا اخرجه من فمه يحرم عليه بعد ذلك تناوله. 

ثم فليفكر المرء في معصية النفس فكيف يستخفي من الناس ولا يستخفي من الله ويلاحظ عظمة المخلوق ولا يلاحظ عظمة الخالق. وليعلم السائل ان مكانة المرء وزمانه ويومه وساعته تنقش وتكتب عليها صورة عمله وكل شيء في الوجود ينتقش وتكتب عليه صورة اعماله من الخير والشر ويبقى في اللوح المحفوظ  في الكتاب الحفيظ الى يوم القيامة. 

ولن يكتمل استكشاف السلوك المطلوب لإعادة اشعال النار الإلهية المهيجة الا بالمواظبة على التفكير، و الانشغال في طلب العلم، والانفتاح على باب الحقيقة. فإلى العدد القادم. 

اترك تعليقا