فجر عهدٍ جديدٍ في سورية
"يوافق الذين تواجدوا في سورية خلال العام 1918 أنّ ذاك العام كان الأكثر عسرًا وحزنًا طيلة فترة الحرب. كانت الأوضاع تتدهور باستمرار وكانت قد هًزُلت قدرات المقاومة ونفدت الآمال. لم يكن في الأفق ما يطمئن لجهة اقتراب نهاية الحرب بل كانت بعض المؤشرات تنذر بأن الحرب قد تطول أشهراً إضافية.
في الحقيقة، لم يكن هنالك من تغيير يذكر في العمل في لبنان وقد جرى توسيع مطاعم الفقراء لتلبية الحاجات المتزايدة. ومن غريب المفارقات أنّه خلال العام الأخير, أي الفترة التي قيل فيها إن القضاء على رجال سورية قد أصبح بمرأىً من الأتراك، عمد هؤلاء على ادخار جهودهم وأجازوا التدخلات الخيرية والانسانية أكثر من أي وقت مضى طيلة فترة الحرب.
في سورية اليوم، يشكّل المستقبل صلب الاعتبارات القومية، فالماضي غيّبناه عن ناظرنا والحاضر لا يعنينا إلا بقدر تأثيره فيما سيأتي مستقبلاً. كلّ شيءٍ يبدو معلّقًا إلى أنّ يتمّ البتّ في مسألة المصير السياسي لسورية.
لقد بلغت سورية عتبة الاحتضار وبدت قيامتها أمرًا مستحيلاً في بعض الأحيان، فقد استنزفت مواردها المادية وستحتاج الكثير من الوقت قبل أن تتمكّن من تجديد قدراتها المنهكة والمستنفدة.
في العام المنصرم، توسّلنا لأجل الاحتلال ولم نجرؤ على مواجهة المصير البائس والمأساوي الذي كان لينتظرنا حتمًا ما لم تأتِ الإغاثة قبيل حلول الشتاء.
الموت يحدّق بهم، لكنهم يجابهونه بشجاعة ومن دون تذمر. عزّة نفسهم لا تسمح لهم بتوسّل الشفقة والإحسان، وهؤلاء هم تحديدًا الشريحة التي ينبغي الحفاظ عليها لما فيه خير الوطن مستقبلاً. الأمر الوحيد الذي يمنع سورية من الوقوف على أقدامها من دون أي مساعدة هو غياب الإمكانيات التي تمكنها من توفير فرص العمل لكل كادح يكسب رزقه من عرق جبينه.
وعليه، فإن أمل البلاد الوحيد يكمن في تلقيها مساعدات خارجية. ينبغي لرؤوس الأموال الأجنبية أن تسهم في تطوير الموارد الطبيعية، أما التعامل التجاري مع أوروبا وأميركا وبلدان أميركا الجنوبية فيجب أن ينعش الموارد المالية الناضبة في هذه الأرض الفقيرة. والواقع أنّ هنالك مؤشرات عدة تدلّ على أن سورية تستحق أن تُستشار فيما يختصّ بمصيرها.
لطالما كان التطرّف الديني للطوائف المتعددة في سورية اللعنة الأكبر عليها. التوجهات القومية المتنامية اليوم هي بالتالي أكثر ما يبشّر بأنّ سورية تمتلك عناصر قوّة خافية وشرارة النار السماوية التي ستتقّد وطنيةً وهّاجةً واندفاعًا قوميًا إذا ما تمّت تغذيتها بالشكل الصحيح.
تتمحور كلّ المناقشات الدائرة في سورية اليوم حول المصير السياسي للبلاد. المسلمون والدروز والطوائف المسيحية كافّة، باستثناء واحدة فقط، موحدون في مطلبهم ورغبتهم بدولة واحدة موحّدة ترضخ لحكم انتدابٍ مقبول إلى حدّ ما، والخيار يتأرجح بين بريطانيا وأميركا.
سورية هي إحدى الدول الصغيرة التي رهنت مستقبلها بحسن نية أميركا الالتزام بمبادىء ويلسن الأربعة عشر، وقد كانت ثقتها بالإخلاص الأميركي لهذه المبادىء كبيرةً إلى حدّ جعلها تأتمننا على وجودها القومي.
إلا أنّ هنالك تسوية وحيدة لمستقبل سورية يستحيل أن تلقى أي ترحيب من الشعب السوري لأنها ستستدعي تقسيمًا لأراضيه. والواقع أن الخوف من هذا الاحتمال قد أفضى في كثير من الأحيان إلى شائعات بان فلسطين ستتحول إلى دولة منفصلة تخضع لإدارة مستقلّة، وستشكل دمشق دولة ثانية، وشمالي غربي سورية أي لبنان الموسع دولة مستقلة ثالثة. أمّا «الحزب الوطني» فكان يرفع دائمًا وأبدًا شعار «سورية موحّدة» وأي رفضٍ لهذا المطلب سيتمخّض عنه اضطرابات تؤدي في نهاية المطاف إلى سفك للدماء، ما لم تتم إزالة مسبّبات الاستياء.
من جهةٍ أخرى، إذا تمّ تجاهل حق سورية بتقرير مصيرها وأُلزمت الأمة على الإذعان لإدارة تفتقد القاعدة الشعبية، فإنّ ذلك سيؤدي حتمًا إلى هجرة نخبة المواطنين السوريين إلى الخارج، فهؤلاء ذاقوا لوعة الخضوع لنظام حكمٍ ماحق أطول مما ينبغي ولن يجازفوا بالبقاء في البلاد في ظلّ هكذا ظروف وخيمة. سورية إذاً تتجّه حكمًا نحو الهلاك!
الحاجة الملحة اليوم تتمثّل بإعادة تنظيم شاملة للإدارة وخلع جميع الموظفين الذين خدموا في زمن الأتراك. كان معظم هؤلاء، إن لم نقل جميعهم، انتهازيين ومتحايلين، استغلوا نفوذهم لإساءة استخدام السلطة والانقضاض على الشعب. أما اليوم، فالطينة نفسها تعود لإدارة البلاد مستخدمةً النهج التركي ذاته. تحتاج سورية إلى تطهير سياسي داخلي ولها كل الحق في أن تطالب بتسليم السلطة إلى من هو كفؤ لادارتها لا إلى أسوأ أنواع “الزعماء” السياسيين.
هل تعي أميركا وضع سورية اليوم؟ يمثّل السوريون أرقى أنواع الثقافة والفكر في العالم الناطق بالعربية والذي يشمل 1/15 من شعوب العالم... ويجوز اعتبارهم خميرة هذا الشرق.
إذا توسّلت سورية أميركا لمساعدتها، هل يجب أن نصمّ أذنينا كمن لم يسمع النداء؟ هل يجب أن نحكم عليها بالاستغلال من قبل قوى فاقدة الضمير لا تقيم وزنًا لخيرها ورخائها ولا تبتغي سوى خدمة مصالحها الأنانية الضيقة؟ هل يجب أن نتخلى عن المبادىء الأربعة عشر عند أول اختبار لمصداقيتها؟ أم ينبغي أن نوظّف كامل نفوذنا للحرص على أن تنال سورية العدالة التي تستحق؟
بزغ النور لكن ما زال الوقت مبكرًا لتحديد ما إذا كانت الشمس ستشرق ساطعة نيّرة أم أنّ غمامةً سوداء ستأتي لتحجب نورها. نحن نعاين فترة ما قبل طلوع الفجر السوري لكن لا فكرة لدينا ما إذا كان النهار المرتقب نهاراً مشمسًا أم محفوفًا بالعواصف."
اترك تعليقا