هل يمكن للضغوط أن تؤثر على صحتنا الجسدية؟

الحقيقة:
افترضت نظريات التحليل النفسي على مرّ السنوات أن الانفعالات التي يتمّ كبتها تعود لتظهر من خلال أعراض جسدية وقد تبيّن لفرانز ألكسندر، أحد واضعي نظريات التحليل النفسي، أن كبت المرء لحاجته إلى البكاء قد يؤدي إلى تشنجات في المعدة وحالة من الربو وغضب دفين قد يرفع من ضغط دمه. على الرغم من أنّ هذه الاختبارات لم تنل قبولاً عامًا لكونها افترضت، مغالطةً، أن هذه الانفعالات تستمر على المدى البعيد، أثبتت بحوث أخرى أجراها سينا وآخرون في العام 1992 صحة هذه الاختبارات بعد رصدها زيادة في دقات القلب لدى من يشعر بالغضب أوالخوف أوالحزن. وهنا يبقى أن نسأل، هل يمكن للضغوط والتوتر القصير المدى أن يسهم في إصابة المرء بأمراض جسدية مستدامة؟ 

على الرغم من أن علماء ومعالجي النفس كانوا أول من أضاء على هذه المسألة، يعود الفضل إلى عالم الفسيولوجيا المدعو هانز سليي (1907-1982) في تطويرها حين أجرى بحثًا على الفئران استخدم خلاله المحاكاة لخلق حالة من الإجهاد عن طريق تجميد الفئران في مكانها عنوة وتثبيت أقدامها في الأرض. أصيبت الفئران إثر هذه الحادثة بحرقة معوية الأمر الذي أطلق المفهوم القائل إن الإجهاد من شأنه التأثير في الصحة الجسدية والتسبب بالمرض.

مستخدمًة القرحة كأحد الأمثال على المرض الجسدي، اكّدت البحوث الوبائية هي الأخرى على العلاقة بين حالات الإجهاد الشديد والإصابة بالمرض. في بحثها المعنون The Very Model of a Modern Etiology: A Biopscychosocial Review of a Peptic Ulcer، أكّدت لفنشتاين على وجود رابط بين الإحباطات الوظيفية وعدم الرضا عن الراتب والمشاكل الأسرية والوضع الاقتصادي الاجتماعي المتردي من جهة وبين الإصابة بالقرحة من الجهة الأخرى.  حتى أن بعض الأدلة الوبائية تعود إلى زمن الحرب العالمية الثانية حين لوحظ أن دخول سكان لندن المستشفى بفعل القرحة المعوية ازداد بشكلٍ ملحوظ خلال عمليات القصف الألماني للمدينة. 

على الرغم من هذه النتائج، لا تزال فكرة إثارة الإجهاد لحالة الحرقة موضع جدل وإرباك خصوصًا أن الإجهاد يخفّض عادةً نشاط المعدة والأمعاء. تفيد لفنشتاين في أحد النماذج التي طرحتها أن تفعيل الكورتيزول أي هرمون الكرب/الإجهاد بعد حادثة مجهدة من شأنه أن يخفّض الاستجابة المناعية لدى المرء فيجعله أكثر عرضةً للإصابة بالحرقة إثر تراجع قدرته على محاربة بكتيريا H.pylori الموجودة في جهاز الهضم. من خلال هذه الآلية، يمكن للكرب أو الإجهاد الشديد أن يساعد على تطور السرطان والإصابة بنزلات البرد وحتى تطور السيدا. من جهة أخرى، قد يؤدي الإجهاد/الكرب على المدى الطويل إلى اضطرابات جسدية أخرى كأمراض في الأوعية القلبية والتهاب في المفاصل عن طريق آلية مناقضة فيها نوع من المفارقة وتتمثّل في زيادة الاستجابة المناعية. تظهر بحوث المناعة العصبية النفسية أن الإجهاد/الكرب طويل الأمد قادر على إبطال عمل مستقبلات الكورتيزول الأمر الذي يرفع الاستجابة المناعية.

اعترف العديد من العلماء بالرابط القائم بين الإجهاد والصحة الجسدية وقدموا إثباتات وآليات منطقية تؤكد ذلك. ولكن إذا كان الجميع يتعرّض للضغوطات والتوترات بشكلٍ يومي، لم لا نمرض جميعنا باستمرار أو نصاب بالقرحة ويرتفع ضغط الدم لدينا؟ يبدو أن قابلية المرء للإصابة بالمرض تعتمد إلى حدّ كبير على  كيفية تقييمه لهذه الضغوطات.

طرحت نظرية تقييم الضغط للمرة الأولى من قبل العالم النفسي ريتشارد لازاروس. تتمثّل الخطوة الأولى بالتقييم الابتدائي والتي نطوّر خلالها تفسيرًا لعامل الضغط أو الإجهاد فيتمّ النظر إليه نظرةً قد تكون سلبية أو ايجابية أو تنطوي على نوعٍ من التهديد. فلنأخذ على سبيل المثال رجل خسر وظيفته لتوّه. إن كان الرجل قد بلغ عمر التقاعد، قد يفسّر الوضع من منطلق ايجابي فيدرك أنّها فرصة جديدة لتجربة أمور جديدة. أمّا إذا كان يكابد مرحلة اقتصادية متعبة، فالأرجح أنه سيرى في خسارة الوظيفة عاملاً سلبيًا وتهديدًا لاستقراره. تؤكد دراسة لفنسون (1979) على هذه النظرية فقد أظهرت أن الأطفال المصابين بالربو قد اختبروا ضيقًا في التنفس لدى مشاهدتهم مقطعًا عن مرض الربو أكثر من لدى مشاهدتهم مقاطع من أفلام أخرى تصّور حوادث لا علاقة لها بحالتهم الصحية. هذا يعني أن تقييمهم للمشاهد على أنّها مجهدة وذات صلة بحالتهم الصحية حفّزت لديهم ردّة فعل جسدية سلبية. أمّا الخطوة الثانية من عملية التقييم فهي التقييم الثانوي والتي يحدّد خلالها الشخص إذا ما كان يملك الأدوات اللازمة للتعامل والتأقلم مع العامل الضاغط، فإذا كان الشخص يشكّك في مدى فعاليتّه الشخصية على المواجهة، يكون أكثر عرضةً لتطوير ردّة فعل جسدية سلبية.  

اترك تعليقا