سلسلة الأعمال المجهولة للدكتور خليل سعادة - بدر الحاج


ولد خليل سعادة في بلدة الشوير اللبنانية سنة 1857 حيث تلقى دروسه الابتدائية قبل أن يلتحق بالكلية السورية الإنجيلية (الجامعة الأميركية حالياً) ويتخرّج منها طبيباً عام 1883. كانت البداية من مجلة “الطبيب”، وهي مجلة طبية وعلمية أصدرها من لبنان قيل انتقاله إلى مصر وإصداره سلسلة من الكتب وبعض الأبحاث السياسية والطبية في جريدة “الأهرام”. كان سعادة يراسل جريدة التايمز البريطانية من القاهرة وساهم إلى جانب عدد من الأشخاص في تأسيس “الجمعية المركزية” التي هدفت إلى المطالبة بحكم ذاتي للعرب ضمن إطار السلطنة العثمانية.

إثر توتّر علاقاته مع الخديويين في مصر، اضطر خليل سعادة إلى الهجرة إلى أميركا الجنوبية حيث أمضى بقية عمره. بعد فترة قصيرة من استقراره في الأرجنتين، سارع سعادة إلى إصدار “المجلة” بالإضافة إلى سلسلة من المبادرات الاجتماعية كتأسيسه نقابة الصحافة السورية لمعالجة الأمور الثقافية والاجتماعية، وإعلانه تأسيس “للحزب الديمقراطي الوطني”. انتقل سعادة إلى البرازيل عام 1919، حيث أصدر صحيفة “الجريدة” الأسبوعية والتي كانت صلة وصل بين الوطن والجاليات اللبنانية، السورية والفلسطينية قبل أن تكلّفه الرابطة الوطنية السورية في سان باولو تولي رئاسة تحرير جريدتها “الرابطة”.

لفت سعادة الإنتباه عن أعظم الأسباب التي تكمن وراء تأخر تقدم البلاد العربية، التي إذا ما دامت سوف تؤول إلى دمار البلاد، على رأسها الانقسامات الدينية التي تسري عند الجميع والتي تبشّر بالخراب العاجل وهي أصل العلّة القتّالة، يليها حبّ الذات حيث أصبح المرء لا يفكّر إلا بما يرقّيه إلى أسمى المراتب صارفاً النظر عن وطنه وأهالي بلاده، ومن بعدها قلّة العدل التي تؤول إلى اندثار الحقوق وضياع الدعاوي، وصولاً للكسل الذي يفتك بالأمّة.

أما الاستبداد... ذلك الطور الوحشي الذي يرجع عهده إلى عصور الجاهلية، الذي قاد الأمم كالقطعان خلف حاكم أو ملك ألّه نفسه وجعل من رعاياه عباداً له، جاء يوم ونفض العالم عنه غبار الذلّ مع الثورة الفرنسية، أما الشرق ... “فقد تغيرت جباله و سهوله وأوديته ... أما أممه وشعوبه فقد ظلّت جامدة جموداً يقضي بالعجب العجاب... فلم تتطور تطوراً سياسياً يستحق الذكر”،  فكبّلت آفة الاستبداد الشرقيين بقوالب حديدية و انتظروا من حكوماتهم أن تنزع السيادة من أيديها وتقدمها كهدية لهم؛ فلم ينتفضوا، فبادر هو، خليل سعادة لدعوة شعوب الشرق إلى ثورة عارمة لإرساء مبدأ أن الشعب هو مصدر السلطات والسيادة وليس الحكام.  

في فصل “ارتقاء الشرق” تغزّل الكاتب “بالأمة العربية”، تلك الأمة العجيبة ولغتها الأعجب، والنهضة العربية العلمية خصوصاً في العهد العباسي التي زادت العرب تمدناً باذخاً لا تزال آثاره الشامخة حتى اليوم، كما أشاد بمجد السوريين الأقدمين و الفينيقيين الخالدين من تجار وصناعيين ومكتشفين ولكنه ما لبث أن لفت إنتباه العرب أن النهضة الأندلسية كانت آخر نهضات الشرق الكبرى، قبل أن يصيب هذه الأمة خمول غريب، أغرب ما فيه أن الشرقيين لا يرون شيئاً غريباً فيه، فأدمغة نسائهم ورجالهم في جمود لا يلتفت سوى لشؤون الحياة البسيطة، غير آبهين بأنهار الشرق التي تجري في البحار دون أن يستفيد منها أحد، وعن كنوزه المدفونة، وعن تُربته التي لا يُستعمل منها إلا القليل، والأوبئة والأمراض التي تفتك بشعوبه، وطُرق تعليمه العقيمة التي تخرّج تلاميذ أشبه بالببغاء، وغياب السكك الحديدية والطرقات والمصانع، والخرافة التي سيطرت على عقولهم فإن رؤوا البروق ظنوها أرواحا والرعود خالوها أصوات جن، هذا ما سمّاه سعادة “تقهقر الشرق” إضافة لعلّته الكبرى، علّة التعصّب الديني. 

رافق دعوة الدكتور سعادة إلى العلمانية والإستقلال والثورة دعوته أيضاً إلى الإشتراكية عبر “فلسفة الجوع” التي كانت السبب المباشر في نهوض الأمة الفرنسية، فلو لم يقرص الجوع الشعب الفرنسي لما ثار على الملك لويس الخامس عشر طالباً الخبز، فحذّر الملوك المستبدين والحكّام الجائرين من ضجر الأمم، فتنقلب على ظالميها الذين أذاقوها مرار الجوع. 

تُختم السلسلة المجهولة بكتاب مفتوح يوجّهه خليل سعادة إلى السوريين، واللبنانيين والفلسطنيين مهنئاً تحررهم من سيطرة الأتراك الظالمين الذين تحكموا بمصيرهم أربعة قرون، متمنياً منهم أن يكونوا يداً واحدة في خدمة الوطن على إختلاف مذاهبهم هذا إن أرادوا أن يكونوا في مصفّ الأمم المتحضرة.
توفي سعادة في العاشر من نيسان عام 1934، تاركًا إرثًا ثقافيًا تعذّر على الزمن محوه. 

اترك تعليقا