حنّا سعادة - فحوصات الثدي الشعاعية والوفيات الناجمة عن السرطان


بما أنّ العديد من معتقداتنا الطبية التقليدية اعتمدت فيما مضى على أدلّة غير كافية، تستمرّ الاكتشافات الحديثة اليوم في نقض وتغيير طرق تصوّرنا للأمور وتصرّفاتنا. فالعديد من الفحوصات التي كان ينظر إليها سابقًا كدليل قاطع على صحّة وإتقان الممارسة الطبية سقطت اليوم من دائرة التفضيل بعد أن اتّضح أنّ أضرارها تفوق فوائدها.
إن الفكرة بأن الفحوص الطبية قد تكون مضرّة  أحيانًا هي فكرة حديثة نسبيًا. فلنأخذ على سبيل المثال قصّة امرأة خضعت لتصوير ثدي شعاعي مشبوه، فاضطرّت للقيام بفحوصات إضافية وعليه، تمّ أخذ خزعة من ثديها وتبيّن أنّ لديها  سرطاناً غير متفشٍّ، فخضعت من بعدها للجراحة وتكوّن لديها خرّاج فانتهى بها المطاف بثديٍ مشوّه، الأمر الذي استدعى عملية تجميل، فتعرّضت المريضة لنزيف تطلّب  هو الآخر عملية نقل دم طورّت إثرها ردّة فعل تحسسية فاضطرت للبقاء أسبوع كامل في العناية الفائقة قبل أن تخرج من المستشفى. تصوّر مشاعر القلق والخوف والإحباط التي انتابتها ناهيك عمّا تكبدته من كلفة وتعطيل كان يمكن تفاديها لأن  السرطان غير الناشط كان مجرّد تشخيص مجهري لا أهمية سريرية له. كان يمكن لهذه المرأة أن تحيا حياة طبيعية وأن تتوفّى جرّاء سبب آخر على الرغم من وجود الورم الحميد في ثديها.
نظرًا لكثرة القصص المماثلة، فإن الهدف المنشود من أي فحص هو إنقاذ أو تحسين حياة المرضى. في حال بيّنت هذه الفحوصات وجود شذوذ قد لا تفضي معالجتها إلى إنقاذ أو تحسين حياة المريض،  عندها يصبح من المفضّل التخلّي عن هذه الفحوصات لأن أضرارها تفوق منافعها. حاليًا، تتعرّض فحوصات الثدي الشعاعية السنوية للاتّهام/الانتقاد بحجّة أنّ ضررها أكبر من منفعتها، فمعدّلات استحضار المريضة للمزيد من الفحوصات مرتفعة، فضلاً عن المبالغة في تشخيص (الكشف عن سرطانات لن تفضي إلى الموت أو إلى ظهور أعراض سرطانية)، وهما أمران يؤديان إلى زيادة القلق والكلفة والضرر ولا يبدو أنّهما يساعدان على تخفيض الوفيات الناتجة عن سرطان الثدي. وقد أثار هذا الاتهام نقاشًا محتدمًا لأن الأدلّة تبقى غير حاسمة. لكن بما أنّ الغاية من النقاش هي التقدّم، سأقوم باستعراض جانبي النقاش، تاركًا للنساء حرية الاختيار فيما بينهما.
الهدف الرئيسي من الفحوصات الشعاعية للثدي هو تخفيض الأعباء الهائلة للمعاناة  التي يكبّدها سرطان الثدي على المجتمع. وقد حاولت دراسة تصوير الثدي الكندية الوطنية التي انطلقت عام 1980 البتّ في سؤالين اثنين:
هل يسهم الفحص المكثّف من خلال التصوير الشعاعي السنوي  وفحص الثدي طوال خمس سنوات بتخفيض الوفيات من جراء  سرطان الثدي لدى النساء بين 40 و49 عامًا؟ بعد 25 عامًا من المتابعة، تبيّن أن هذه الفحوصات لا تخفّض معدّلات الوفاة.
هل يسهم التصوير الشعاعي للثدي ومعه فحص الثدي المتأني بتخفيض الوفيات من جراء سرطان الثدي لدى النساء بين 50 و59 عامًا؟ الجواب مجدّدًا وبعد 25 عامًا من المتابعة هو كلا.
بالإضافة إلى ذلك، إنّ 22% من الحالات المكتشفة هي حالات تمّت المبالغة في تشخيصها وتلقّت العلاج ضدّ سرطانات اتّضح أنّها حميدة وما كانت لتسبّب الوفاة. لكنّ هذه النتائج تتناقض مع التجارب التي جرت في السبعينيات وأشارت إلى انخفاض في معدّل الوفيات بنسبة 15%. وقد يكون هذا التفاوت مردّه إلى أنّ العلاجات الحديثة هي أفضل بأشواط، الأمر الذي يحدّ من أهمية الكشف المبكر.
في المقابل، توصي معظم المراجع الطبية بإجراء التصوير الشعاعي لدى النساء بين 60 و69 عامًا كلّ سنتين لأنّه قد يجدي نفعًا، باستثناء المجلس الطبي السويسري الذي لم يعد يوصي بالتصوير به أيًا كان عمر المريضة.
الجدير بالذكر أن هنالك طريقة تصوير جديدة بالأشعة السينية تعرف باسم tomosynthesis، يمكن إذا ما استخدمت إلى جانب التصوير الشعاعي للثدي أن تحسّن من كشف السرطان وتخفّض من معدّلات استحضار المرضى لفحوصات إضافية ومن معدّلات التشخيص الإيجابي المغالط وهي قادرة على تخفيض معدّلات الوفاة بسرطان الثدي، لكنّ نسبة الانتفاع والضرر المتوقّعة من هذه الطريقة تبقى رهنًا بإصدار دراسات النتائج ذات الصلة.
خلافًا للدراسة الكندية، بيّنت 14 دراسة حديثة نسبيًا ( بين2001 و2010) تناولت نساء بين 40 و74 من العمر انخفاضًا في الوفيات بنسبة 25% إلى 50%. وبناءً على هذه الدراسات، تستمر الجمعية الأميركية للسرطان وغيرها من الجمعيات بالتوصية بالتصوير الشعاعي السنوي للثدي لدى النساء البالغات من العمر 40 عامًا أو ما فوق.
إجراء التصوير الشعاعي للثدي أو عدمه إشكاليّة حالية لا يمكن حسمها إلا من خلال دراسات النتائج الحديثة التي ستتمكّن أو تعجز عن إظهار انخفاض ملحوظ في معدلات الوفاة بسرطان الثدي. وإلى حين توافر مثل هذه الدراسات الحاسمة، يبقى قرار التوصية بالتصوير الشعاعي السنوي للثدي والخضوع له  أمرًا يحدّده الطبيب والمريضة. 
في هذه الأثناء، ينبغي الاستمرار في توخي الوقاية إزاء عاملي الخطر الأساسيين في زيادة سرطان الثدي أي السمنة والخمول البدني، فالإجراءات الوقائية ضرورية لمكافحة سرطان الثدي لا مفرّ من تطبيقها بصرف النظر عن خيارات الطبيب والمرأة فيما يختص بفحوصات التصوير. 

اترك تعليقا