نساء بابل : الجندر والتمثّلات في بلاد ما بين النهرين - زينب البحراني

ظلّت الوثائق التاريخية والآثارات الأرخيولوجية التي يمكن أن توفر معلومات عن المرأة أو عن المفاهيم المتعلقة بالجندر في العصور القديمة السابقة للعصر الإغريقي القديم مهملة على الرغم من توفر أدلّة بصرية ونصّية عديدة صمدت بوجه الزمن في مناطق مثل بلاد ما بين النهرين ومصر والأناضول وإيران وسورية. من هنا جاءت فكرة كتاب “نساء بابل”، لتمثّلات الأنوثة المنبعثة من النظريات النقدية المعاصرة التي تتناول الجندر، التحليل النفسي، العلامات والنقد التاريخي التي تشكّل جميعها بنية منهجية لا تقوم فقط بتوجيه عملية تقصّي عن هذه الثقافة القديمة بل تتصدى أيضا لمسألة كيفية إستخلاص المعنى من الماضي.

يقدّم الفصل الأول فكرة عامة عن نظرية النسوة وتطورها خلال العقود الثلاثة المنصرمة في مجالي العلوم الإنسانية والعلوم الاجتماعية. تستهلّ البحراني كتابها طارحةً السؤال: “ما تاريخ المرأة؟”، وتفيد أن المعاني الأكثر شيوعًا لمصطلح تاريخ المرأة يعتمد على تحديد موقع المرأة داخل الفضاء الخاص للحياة المنزلية والعائلية وموقع الرجل داخل الفضاء العام للعمل والحكم. تناقش البحراني بالتفصيل الشؤون والهواجس المختلفة التي شغلت ما وصفته بموجات الدراسات البحثية الثلاث حول النسوة منذ الستينيات وحتّى اليوم وتلاحظ من جملة ما تلاحظه أنّ دراسة المجتمعات القديمة تطرح مجموعة من الإشكاليات والمشاكل تختلف عن تلك التي تواجه المجتمعات المعاصرة والتي هي في صلب اهتمام معظم الباحثات المثقفات ذوات النزعة النسائية.

في الفصل المعنون “استشراف التباين”، تتناول الكاتبة كيفية فهم الثفافات القديمة للمرأة والجندر والنسوة من خلال السجلات البصرية فتنتقد تطبيق نظرية “الفنّ للفن” وهي نظرية أوروبية معاصرة وتخلص قائلةً إن إيديولوجيات الجندر متأصّلة في العديد من التمثّلات، وهنا بالضبط، يمكن لقراءةٍ خلّاقةٍ أن تثؤي وأن تنوع مجالات التركيز الحالي الذي ينصبّ على ايديولوجيا دولة قهرية والتي لا تزال الأبحاث الخاصة بالشرق الأدنى تفضّله.

في فصله الثالث، يعمد الكتاب إلى التقصّي عن تركيبة الجندر في ثقافة بلاد مابين النهرين إنطلاقا من الجسد والعري. تعتقد البحراني أنّه ينبغي دراسة الجسد في الفن بوصفه رمزًا تمثيليًا وليس بوصفه مجرّد انعكاس للأجساد الحية الحقيقية في العصور القديمة، وتستعرض في ملاحظاتها الاختلافات البارزة بين الصور الأدبية والبصرية الذكورية والأنثوية.

كان العري الأنثوي في بلاد ما بين النهرين مرتبط على نحو رئيس بالإغواء الجنسي، فجسد المرأة العارية يُعرض مواجهة للناظر وغالبا ما تشير الأنثى إلى تلك الأجزاء من جسدها، أما العري الذكوري كان يُستخدم لأغراض أيقونية محدّدة وبدلالات قد تكون سلبية أحياناً كالموت أو الهزيمة وإيجابية أحيانا أخرى كالقوة الرجولية البطولية.

الملفت في النصوص القديمة أن مصطلح “العري” لم يكن موجودا بالرغم من وجود كلمات مستخدمة أخرى للإشارة إلى أعضاء معينة من الجسد. رغم التركيز على صورة الجسد الأنثوي كرمز ومؤشر للإغواء في ثقافة بلاد ما بين النهرين، غير أن هذه الخاصية لم يتقبلها الإغريق بتاتاً، فكلا الثقافتين الإغريقية وتلك الخاصة ببلاد ما بين النهرين تغزلتا بجسد المرأة ولكن كل ثقافة على طريقتها.

لم تغفل البحراني عن تسليط الضوء على أهمية الأساطير في تحديد الترتيب الثقافي لمنظومة ما، من هنا تبرز أهمية الآلهة عشتار في الثقافة الآشورية-البابلية. فقد ساد افتتان خاص بآلهة الحب والحرب هذه ذات الطبيعة المغوية جنسيًا والممزوجة في الوقت عينه بنزعتها للعنف. علم الأشوريات اعتقد أن عشتار خنثى ولكن كيفية تحديد تلك الخاصية ليست على تلك الدرجة من الوضوح، إذ أعطوها هذه الصفة بسبب حملها للسلاح. يمكن القول أن تركيبة عشتار الأسطورية بما هي مخالفة للرجال كانت بمثابة الضمان لتماسك نظام العالم في بلاد مابين النهرين.

في الفصل الأخير، يركّز الكتاب على أساليب استخدام صورة المرأة البابلية والدور الذي مارسته تلك الأخيرة في الفنون البصرية الأوروبية في القرن التاسع عشر عبر لوحات “سوق الزواج البابلي” للفنان البريطاني إدوين لونغ و“عشتار” للفنان البلجيكي فرناند خنبف.

باختصار، الكتاب دراسة مرجعية تقدّم قيمة معرفية عالية لكافّة المهتمين بالإطّلاع على قضايا النساء والجندر في ثقافات وفنون وآداب الشرق الأدنى القديم. 

اترك تعليقا