مجيء فؤاد شهاب إلى السلطة بإنقلاب بطيء وفقا لكتاب

"إن الخطة الشهابية للوصول إلى الحكم لم توضع على الورق بشكل أوامر أو دراسات معينة ولم يفصح عنها صاحبها سوى للمقدم أنطون سعد والمقدم يوسف شميط والنقيب هنري شهاب. أما نحن صغار العسكريتاريا فمنا من كان لا يفقه مما يجري حوله شيئاً، فينفذ الأوامر بغباوة كلية ويأتي آخر الشهر ليقبض راتبه. والبعض الآخر القليل العدد كان يهتم بالشؤون العامة، لأن الحرب، كما يقول كلوزويتس، هي استمرار للسياسة بوسائل أخرى.

La guerre C’est la Continuation de la politique par d’autres moyens

والمخطط الشهابي اتضح لي شخصياً أكثر من أي ضابط آخر في الجيش باستثناء المقدمين سعد وشميط والنقيب شهاب لأني كنت من النوع الذي يسأل دائماً عن الـ ( Pourquoi des Choses).

والخطة الشهابية كانت تبرز للمحلل من تصرفات اللواء فؤاد شهاب فقط. فهو على الرغم من صمته وعدم إفصاحه عن نواياه، كانت تصر عنه من حين لآخر بعض العبارات والتصريحات التي تنم عن الشيء الكثير.

وكان فؤاد شهاب يطمح إلى الرئاسة منذ زمن بعيد. وخلافنا معه منذ سنة 1957 لم يكن على طموحه بل على الوسيلة التي اتبعها لتحقيق ذلك.

كان يريد أن يأتي رئيساً بإجماع أعضاء المجلس النيابي وكمنقذ، ودون أن يطلب من أحد أن يقترع له، عبر تحريض المتخاصمين على بعضهم البعض، حتى إذا تعب هؤلاء أتوه سجداً ضارعين إليه أن يضحي ويقبل الرئاسة الأولى.

أما نحن وكنت على رأس فئة من الضباط، فكنا نخشى أن تؤدي خطته إلى حرب أهلية طائفية والى إراقة الدماء البريئة من أبناء الشعب والجنود، وكنا نطالبه بالتدخل العسكري العلني فقط عند محاولة تعديل الدستور للتجديد وعدم السماح للمعارضة بأي شغب.

وكان التدخل العسكري، أو الانقلاب العسكري بنظرنا، ضرورياً عندما تصاب المجتمعات بأمراض مستعصية تعجز عن معالجتها الطبقة الحاكمة التقليدية والانقلاب في أكثر الأحيان هو التعبير عن سخط الأكثرية العاجزة في المجتمع ضد الأقلية الحاكمة المستبدة.

والانقلاب هو عملية عسكرية خاطفة يهدف أصحابها الاستيلاء على السلطة بأقصى سرعة. ويجب أن تتم العملية في ساعات معدودات، إن لم نقل في دقائق.

وإذا حللنا ما قام به فؤاد شهاب ما بين 1952- 1958 نجد أنه قام عملياً بانقلاب عسكري بطيء خطط له مدة خمس سنوات ونفذه خلال سنة. وهنا وجه الطرافة في الموضوع... وهنا المأساة.

اللواء شهاب يجعل من الجيش دولة ضمن الدولة منذ 1947

في الخامس والعشرين من أيار سنة 1947، جرت الانتخابات النيابية المشهورة، التي اتهمت المعارضة على أثرها الجيش اللبناني بالاشتراك بالتزوير. وأراد اللواء شهاب أن يبعد التهمة عنه وعن جيشه فاستدعى إلى مكتبه الأستاذ رشدي المعلوف، الصحفي المعروف والذي كان يُدرّس اللغة العربية في المدرسة العسكرية، وطلب إليه أن يكتب سلسلة مقالات وينشرها في الصحف ويبرر بها موقف الجيش ليرفع عنه تهمة التزوير. اعتذر المعلوف عن الكتابة، الشيء الذي أغضب فؤاد شهاب فألغى اتفاقية التعليم التي كان رشدي بموجبها يقوم بالتدريس لقاء أجر مرتفع وحل محله الملازم الأول رزق الله من قيادة الدرك.

وهذه الحادثة دليل قديم على طموح فؤاد شهاب بالحكم وعلى ميله إلى فصل الجيش عن السلطات المدنية وجعله دولة ضمن الدولة ومرتبطاً به شخصياً وليس بالسلطة التنفيذية في البلاد.

في ربيع سنة 1953 التقى الأستاذ بشور الحداد محافظ مدينة بيروت سابقاً باللواء فؤاد شهاب وسأله لماذا رفض ترؤس الوفد المعين لحضور تتويج الملكة اليزابيث فأجاب: “يا أستاذ بشور، أنا شايفلك اني راح ابعت مستر كميليو على البحر قبل ما يبعتني”. وقد ظن فؤاد شهاب يومها أن الرئيس شمعون يريد عزله من قيادة الجيش أثناء غيابه فرفض الذهاب. ويقال أن الملحق العسكري الأميركي آنذاك كان يشدّ عزيمة فؤاد شهاب ضد الرئيس كميل شمعون.

الأسلحة السياسية

كانت قضية تسليح جيشنا الصغير هي شغلنا الشاغل. ومنذ سنة 1955 أي منذ أن أصبحت في الأركان وأنا أتلقى الرسائل بهذا الخصوص. وتعاقدنا في تلك السنة مع فرنسا لشراء بعض الأسلحة الخفيفة ودفعنا قسماً من الثمن ولكن فرنسا تمنعت عن تسليمنا السلاح المتفق عليه متعللة بأن حالة الشرق الأدنى المتوترة لا تسمح بذلك. وأن هناك اتفاقاً بين الدول الغربية على فرض حظر على إرسال السلاح لهذه المنطقة.

ولم تفتح الدول الغربية يدها إلا بعد أحداث قناة السويس، فتدفقت علينا الأسلحة من ثلاثة مصادر: انكلترا وأميركا وفرنسا. ونتج هذا الكرم عن موقف لبنان أثناء أزمة السويس وعدم قطعه العلاقات الديبلوماسية مع الغرب.

وعرضت علينا بريطانيا برسالة خطية مزيداً من الدبابات “الشاريوتير”: أربعين دبابة بحالة جيدة بسعر خمسة عشر ألف ليرة لبنانية الواحدة. في حين أن سعرها الأساسي لا يقل عن نصف مليون ليرة لبنانية للدبابة الواحدة.

ورفض فؤاد شهاب الدفع وطلب أن تقدم هذه الدبابات لنا دون ثمن وكهدية. وبقيت البرقيات بيننا وبين الوزارة البريطانية المختصة أكثر من اسبوعين بواسطة سفيرنا هناك ابراهيم الأحدب. وأرسل فؤاد شهاب العقيد فؤاد لحود إلى بريطانيا ليفاوض الانكليز بغية الحصول على الدبابات دون ثمن. وأبرق فؤاد لحود بان الانكليز قد خفضوا السعر الى ثلاثة الاف ليرة لبنانية للواحدة. وهذا سعر زهيد جداً بالنسبة لميزات الدبابة شاريوتير وحالتها الجيدة. وكنا قد حصلنا من الانكليز قبل بضعة أشهر على اثنتين وعشرين دبابة منها دون مقابل. وأصر قائد الجيش على أن لا ندفع أي فلس. فسألت العقيد شميط لماذا هذا الإصرار على الحصول على الدبابات مجاناً وثمن الاربعين دبابة لن يتعدى المائتي ألف ليرة لبنانية وهو مبلغ زهيد جداً؟ فأجابني: لأننا لا نريد أن يقبض العقيد فؤاد لحود الثمن. استفهمت منه وكيف سيقبض الثمن بينما وزارة التموين البريطانية هي التي تطلب السعر؟ فأجابني: “إن وزارة التموين البريطانية ستقبض الثمن ومن ثم تدفعه إلى العقيد فؤاد لحود لتقوي نفوذه في لبنان على حسابنا”.

ولما كان فؤاد شهاب يريد تقوية نفوذه فقد اعتمد على فرنسا في تسليح الجيش فاشترى منها صفقة من الأسلحة بخمسة ملايين ليرة لبنانية قسطت على خمس سنوات، كل سنة مليون ليرة لبنانية.

ومن جملة هذه الأسلحة عشرين دبابة (A.M.X) كل واحدة بماية وخمسين ألف ليرة.

وبينما كان فؤاد شهاب يتفقد المعدات الفرنسية التي وصلتنا حديثاً، وكنت معه، أبديت رأيي أمامه أن الدبابة شاريوتير هي أفضل ومدفعها أكبر ومحركها أقوى وامتن. فانتفض غاضباً وقال لي: “إذهب وادرس ميزاتها من جديد. هيئتك نسيت المهنة وأنت بالأساس ضابط مدرعات”.

وبالطبع كنت أعرف الميزات الفنية والعسكرية لكل دبابة، وجيداً، ولكني تجاهلت الميزات السياسية وهو الامر الذي أغضب قائدنا. ويختتم عوض كتابه بالقول: "لو أنّ الإرهاب الشهابي كان في مصلحة التغيير أو تطوير لبنان ومجتمعه ومؤسساته لكنّا غفرنا له إرهابه. لكنّه بعد إثني عشر عامًا من كبت الحريات، عدنا لنرى حكومة وصفتها الولايات المتحّدة بأنها حكومة رجعية وغير صالحة." 

اترك تعليقا