أوراق من عُمر مكتوب - منى بارودي الدّملوجي

تروي بارودي مراحل طفولتها قائلة «عشنا طفولتنا في حدائق بيوتنا العامرة وفي طرقات جان دارك والحمراء التي كانت وقتئذ معظمها بساتين فجل وخس وبقدونس يسيّجها الصبّير، وكان شارع الحمراء مقفر يحتوي على بضع كومات من الرمل وعلى الجوانب بساتين خضراء».

روت عمرها في أدقّ تفاصيله، متناولةً جوانبه المضيئة و المظلمة، « كانت حياتنا ما يسمى رأس بيروتية بروتستانتينية... كان البروتستانت في ذلك الزمان يتعشّوا باكراً ويناموا باكراً».

من إبتدائية مس أمينة «البروتستانتيّة من أعلى رأسها إلى أخمص قدميها»، إلى مدرسة البنات الأهلية في وادي أبو جميل التي أتاحت لها فرصة التعرّف على خليط غنيٍّ ومتنوّع من مختلف الطوائف والعائلات والاتجاهات السياسيّة، في جوٍّ علمانيّ بعيدٍ عن التطرف. لم تنسَ بارودي لقاءها مع كبار أهل الفكر والأدب أمثال توفيق يوسف عوّاد ومي زيادة.

“كانت الأهلية معهد إستثنائي تدربنا فيه على كل مكان يعوزنا في ذلك الزمان”.

أسفت الكاتبة بأحد فصول كتابها لما آلت إليه الفروقات الدينية من تعصب، حينما ألحّ رجال الدين الكاثوليك في عرس «ألس»، إبنة عمتها من «جرجي خوري» في إحدى الكنائس الكاثوليكية على عمادتها قبل البدء بالمراسم، هذا لأن المعمودية البروتستانتينية غير نافعة مسيحيا واستذكرت بفصل آخر عرس خالتها وداد من الصناعي المرموق اميل قرطاس المنتمي لطائفة الكويكرز(Quakers) حيث أعلن العروسين بغاية البساطة أمام الحضور من غير أي وجود لاكليروس عن عزمهما الارتباط بالزواج المقدّس.

ثمّ تستجمع فترة إعلان الحرب العالمية الثانية، حين التحقت بالجونيور كولدج التابعة للإرسالية البروتستانتينية، صف الفرشمان، حيث تعرفت وصادقت بنات من شتى المناطق، ثم حفلة التخرج التي كانت مختصرة نظراً لسوء الأوضاع الأمنية بسبب اندلاع حرب رشيد عالي الكيلاني في العراق، ذلك قبل التحاقها بالجامعة الأميركية في بيروت عام 1941 حيث درست الإقتصاد.

“كانت أيام الجامعة حقاً من أحلى الأيام معرفة وحماسة وحيوية”، تفيد الكاتبة مستغرقةً في حنينها وشوقها إلى حدائق الجامعة وإلى مقهى فيصل الذي لطالما عهدته زاخرًا بالحيوية والصداقة قبل أن تحوّله أيامنا التافهة إلى أحد مقاهي ماك دونالد.

وتوقفت عند علي الوردي، ذلك الزميل العراقي على مقاعد الدراسة الأكبر سنّا الذي كان يعبّر عن نفسه بلغة إنكليزية متعثرة بالكاد تفي بالمعنى و أصبح فيما بعد ناقداً إجتماعياً ومؤلفاً لكتب عديدة.

ولم تنسَ زيارتها القدس لإشباع فضولها بمعالم المدينة مع زميلتها ندى مقدسي ومن ثم حمص نزولاً لدعوة إحدى الصديقات، وعلى ما يبدو أن السفر في ذلك الوقت كان آمناً عكس ما آلت إليه الظروف في أيامنا هذه، قبل أن تستقبلها بيروت سنة 1943 كسكرتيرة لمدير شعبة الأخبار في مكتب معلومات الحرب الأميركية، ثمّ سكرتيرة الجونيور كولدج عام 1944 التي أصبحت اليوم تدعى الجامعة اللبنانية الأميركية، ثم معلّمة لفرع الإقتصاد لصف الصوفومور.

دوّنت بارودي قصّة حبّها وأيامها في العراق منذ زمن الملك فيصل حتى الغزو الأميركي للعراق وبناء العائلة والصعوبات التي واجهتها في الإستقرار في منطقة لبثت لسنوات طويلة أسيرة الحروب و المشاكل من العراق ولبنان وفلسطين وغيرها من الأقطار العربية.

تحلّق بنا الكاتبة من خلال فصول عمرها المكتوب إلى ذكريات زمنٍ جميلٍ بكلّ تفاصيله وأجزائه فتقصّ علينا سيرتها على شكل نزهةٍ جميلة من دون بكاءٍ أو تحسّر بل بقلبٍ كريمٍ وعطوف، متسامح مع الذات ومنفتح على الآخر، وبنفسٍ رضيّةٍ بقضاء الله ومتصالحة مع كافة المحطّات واالمراحل التي عايشتها، السعيدة منها والعصيبة على حدّ سواء. 

اترك تعليقا