المحافظة على التراث في العالم العربي
كانت المدن التاريخية والأحياء التقليدية في البداية مسكناً للعائلات الميسورة أما اليوم، فباتت تستضيف جماعات أقل يسراً من مقيمين ومستأجرين بعد أن غادر الأغنياء بحثاً عن شروط معيشية أخرى في رحاب العواصم الكبرى. هذا معناه أن سكان الأحياء التراثية يفتقرون اليوم للقدرة على الاستثمار في أعمال الصيانة، لكن ذلك يشير في المقابل إلى أن جهود المحافظة على التراث قادرة على التأثير بشكل مباشر على سبل العيش في هذه الأوساط الصغيرة وعلى خلق المزيد من الوظائف وفرص العمل لهؤلاء السكان.
تحولت المدن الصغيرة في عصرنا اليوم إلى أحياء صغيرة تنبسط ضمن مدن أكبر. يشير تقرير صادر عن البنك الدولي في العام 2010 إلى أن الأحياء التراثية في مدينتي الدار البيضاء وفاس باتت تشكل 2% و 12% على التوالي من مساحة المدينتين(Bigio & Licciardi, 26)، إلا أن الأسواق، على صغرها، لا تزال مقصداً لباقي السكان لشراء حاجياتهم الأساسية.
تختلف مواطن الضعف في المواقع التراثية الموجودة في المنطقة، ففي لبنان على سبيل المثال باتت صور وبعلبك مدينتي السكون والهدوء على عكس الأوساط الزاخرة بالحياة في مدن تاريخية أخرى في الجوار الإقليمي. أما مدينة طرابلس التاريخية فقد تعرضت بفعل التقصير لأضرار جسيمة أثرت على سبل عيش سكانها. في القاهرة، تتعرض بعض المعالم الإسلامية لتجاوزات بفعل البناء العشوائي أما الأهرام فهي أيضاً في دائرة الخطر نتيجة شبكات الصرف الصحي والمياه الجوفية المتاخمة لها (Helmy & Cooper, 196). على غرار سواها، لم تنجُ مدينة حلب التاريخية من التهديدات الناجمة عن سياسات التنظيم المدني العشوائية والتزايد السكاني بعد أن ارتفع عدد سكانها من 25000 في القرن العشرين إلى 2.5 مليون في بداية القرن الواحد والعشرين (Spiekermann & Gangler, 16).
أخفقت الحكومات العربية في وضع سياسات تعالج مشاكل إصلاح وصيانة المواقع التراثية بما يتناسب مع السياسات السياحية، لكن النشاط المتزايد للجمعيات الأهلية والمنظمات العالمية والقطاع الخاص ساهم لحسن الحظ في إطلاق بعض المبادرات الجارية اليوم لسد الثغرات الحاصلة.
برزت ايجابية في التعاطي مع ملف المحافظة على التراث في سوريا والأردن على وجه الخصوص. ففي الأردن على سبيل المثال، استثمرت الأموال لتوسيع مداخل المدن القديمة وإنشاء مسارات لركوب الخيل بغية توفير خيارات ترفيهية أوسع. أما في جوار وادي موسى، فقد تم بناء السدود للحد من الفيضانات، وقد تم اللجوء إلى آلية سهلة التطبيق عن طريق استخدام رسوم الدخول إلى المواقع السياحية للقيام بأعمال الصيانة، ففي بترا يتم تخصيص 25% من عائدات الرسوم لهذه الغاية (Bigio & Licciardi, 26). أما حلب، فهي تشهد سلسلة من الإصلاحات بفضل التعاون الحاصل بين مدينة حلب والشركة الفنية الألمانية منذ العام 1993. أطلق مشروع التجديد المدني هذا فساهم في إنشاء معرض لإعادة التأهيل وترميم بعض المعالم الأثرية بالتعاون مع بعض الجهات الخاصة، كم أنه باشر في وضع خطط لحماية القلعة والكشف عن الجدار الغربي للمدينة.
في لبنان، بدت آفاق مشروع الإصلاح التراثي أقل تفاؤلاً، فقد ركزت مشاريع إعادة الإعمار التي تلت الحرب اللبنانية على نتائج فورية لم تراع غنى التراث البيروتي. إن القانون اللبناني الوحيد الذي يعالج قضية الحفاظ على التراث يعود إلى العام 1993 ويتناول فقط أبنية السبعينيات. أما موجة إعادة الإعمار التي تلت الحرب فقد ساهمت التشريعات في رميها على عاتق القطاع الخاص حتى أن موضة التجديد هذه قد توسعت اليوم لتشمل مناطق لم تتأثر بالحرب. لحسن الحظ، ساعدت الجهود التي بذلها المجتمع المدني في الآونة الاخيرة في نشر التوعية إلى أهمية وقيمة المباني البيروتية القديمة.
ختاماً، لا بد من الإشارة إلى أن قيمة المواقع الأثرية تبقى دون جدوى إن لم ترافق بسياسات تؤمن الإطار المؤسساتي لإدارة وإعادة تأهيل هذه الأوساط المدنية ولا بد أن تراعي الجهود عمليات تطوير البنى التحتية والمخاوف البيئية.
اترك تعليقا