أطلس لبنان : الأرض والمجتمع - المجلس الوطني للبحوث العلمية بالتعاون مع المعهد الفرنسي للشرق الأدنى

بالتأكيد إن هذا الأطلس ليس الأول في لبنان بل سبقه أطالس أخرى كان أولها أطلس «سوريا ولبنان» في مرحلة الانتداب الفرنسي الذي إهتمّ بإكتشاف فرص التوظيف المالي والتجارة والموارد الاقتصادية المتوفرة مع الشرق الذي بات تحت الانتداب الفرنسي، و»أطلس لبنان» خلال رئاسة فؤاد شهاب وهو ما ارتكزت عليه عملية التنمية التي أطلقها ذلك العهد ومازالت بصماتها باقية حتى الآن والأطلس الذي صدر عام 2007 لإيريك فرداي، غالب فاعور و سيباستيان فيلو هو حصيلة جهد مشترك من مجلس الإنماء والإعمار والمجلس الوطني للبحوث العلمية وأعدته دار الهندسة وغلبت عليه رؤية لبنان في أعقاب أعوام الحرب الأهلية وما رافقها من تحولات على الصعيد السكاني وما تلاها من إعمار.

توالت فصول الكتاب، فالفصل الأول يفسح النطاق أمام هيكلية الدولة والمؤسسات الرسمية وارتباطها بالجغرافيا السياسية والمناطقية؛ فمع زوال الإمبراطورية العثمانية نشأت دول جديدة فرضتها الدول الإستعمارية على أنقاض تلك الإمبراطورية و مع إسرائيل بدأ الصراع العربي الإسرائيلي الذي أدى إلى تأثيرات عميقة على لبنان وخصوصاً تصاعد المواجهات بين إسرائيل والقوى الفلسطينية في لبنان أواخر الستينيات الأمر الذي شكل أحد العوامل لإندلاع الحرب الأهلية وإستمرارها لفترة طويلة، حيث عرف المجتمع اللبناني إنقساماً جذرياً بين احزاب يمينية واحزاب تقدمية تناصر الفلسطينيين. ناهيك عن التدخل الإسرائيلي في لبنان مسيطرا على الشريط الحدودي جنوب البلاد والسيطرة السورية في الميدان الاقتصادي على مستويات عدّه وأميركا الداعمة لإسرائيل والتدخلات الخجولة لفرنسا والقوات الأوروبية ومن ثم إغتيال الحريري والإنسحاب السوري. كل تلك التحولات السياسية كان لها تأثير مباشر على خصوصية لبنان.

يعالج الفصل الثاني مسألة الانخراط اللبناني على المستوى الإقليمي والعالمي عن طريق الهجرة وإنتشار الجالية اللبنانية في أنحاء العالم وتشير الأرقام أن فترة العشرينيات ونهاية الخمسينيات إتّسمت بتجمع أساسي للبنانيين في أميركا الشمالية والجنوبية كما كانت أميركا اللاتينية (البرازيل والارجنتين) أولى الدول المستقبلة لهم. فيما كانت كل من أوروبا، أستراليا، الدول العربية وإفريقيا وجهة ثانوية للبنانيين.

اختلفت المعايير بدءًا من عام 1975 حيث تسببت الحرب الأهلية بهجرة 600000 لبناني، توزعت نسبة كبيرة منهم في أميركا الشمالية، تلتها أوروبا الغربية ولاقت الدول العربية حينها رواجاً كبيراً من قبل اللبناني الذي استطاع بثقافته و إتّقانه لعدة لغات فرض نفسه في سوق العمل العربي، مساهما بشكل أساسي بالتطور الاقتصادي للدول النفطية. لم يغفل هذا الفصل عن عرض أثر العولمة على لبنان على الصعيد الإقتصادي و الإجتماعي الثقافي إذ شكلت هجرة اللبنانيين مصدراً إقتصادياً أساسياً عبر التحويلات المالية من المهاجرين لأسرهم في جميع طبقات المجتمع نسبة كبيرة من الدخل المتوفر.

يتحدث الفصل الثالث عن النمو السكاني وتطوره ويشرح بالأرقام المؤشرات الديمغرافية و تفاوتها بين المحافظات الست و إرتباطها بالمستوى التعليمي لدى الأمهات كما يبين أثر هذا التطور في المكونات الوطنية بما فيها الطوائف المختلفة. لم يغفل الفصل من تبيان توزع اللاجئين من أرمن وفلسطينيين وأكراد ومكتومي القيد على الأراضي اللبنانية وأصل وجنس العمال الأجانب في لبنان إذ احتلّ الآسيويون غير العرب النسبة الأكبر.

يصف الفصل الرابع التحولات الديموغرافية التي توالت على لبنان منذ الحرب الأهلية اللبنانية التي شكلت عاملاً أساسياً من عوامل التغيرات المحلية في إستخدام الأراضي و أسفرت عن التخلي عن بعض المناطق وتدمير المناطق السكنية والإستقطاب الطائفي، كما أدّت لتحول واضح للمناطق الزراعية والطبيعية و أضرار بيئية خطيرة أحد نماذجها إستخراج مواد البناء؛ فانتشار المقالع خصوصاً على السفوح الغربية من جبال لبنان هي أكبر برهان.

الفصلان الخامس والسادس يعرضان الطاقات الإقتصادية في شقها الزراعي، الصناعي والخدماتي ومساهمتها في الناتج المحلي الإجمالي اللبناني حيث إحتلت التجارة الحصة الأكبر من إجمالي الناتج المحلي، كما تم عرض توزع الطاقات الإقتصادية وتفاوتها بين المناطق حيث إتّجهت العاصمة نحو الخدمات المالية والخدمات المقدمة للشركات وضمت ضاحية بيروت الشرقية قطاعاً صناعياً قوياً وتمايزت مناطق الأطراف بمستوى مرتفع في النشاط الزراعي وبمستوى أعلى من المتوسط في قطاع البناء.

أما القسم الأخير فيعالج موضوع تنظيم الأراضي فيما بينها والتوزيع القطاعي لإستثمارات إعادة الإعمار بين عقود منتهية وعقود قيد التنفيذ حيث إحتلت البنى التحتية من طرق، طاقة والإتصالات أعلى نسبة شكلت 56% من مجمل النفقات. كما تعتبر عمليات إعادة اعمار بيروت إحدى أكبر الورش التي تمسكت بها الحكومة اللبنانية حيث بيّن الأطلس مشروع إعادة الاعمار من قبل شركة سوليدير حيث تم هدم 80 % من المباني القديمة لمصلحة المكاتب والمتاجر الفاخرة والنشاطات الفندقية.

يتلو هذه الفصول ملحق يعرض تفاعلات حرب تموز 2006 وآثارها على الأرض واضرارها الميدانية والخسائر الإقتصادية المباشرة على السكن حيث تمركزت أعلى نسبة مباني متضررة ومدمرة في قضاء بعبدا كما أن الأضرار التي لحقت بالقطاع الصناعي تمركزت في نفس القضاء.

لماذا هذا الأطلس الجديد؟ لأن الأحداث الدرامية التي تشوّش حياة اللبنانيين إذا ما أخذناها بشكل منعزل ضمن إطار الدينامية الجغرافية، تعطي المراقب إحساساً بالسخافة والعجز لأن خاصيتها البعيدة عن التوقع وقساوتها تجعل من المستحيل فهمها المباشر، خصوصاً أن الأطالس الرائجة في لبنان وعنه هي إما قديمة أو تقتصر على جوانب منه دون جوانب أخرى ولاسيما أن الجغرافيا لم تعد كما كانت عليه مجرد تضاريس ومرتفعات وأودية وموقع جغرافي؛ بل أصبحت أكثر تعقيداً مما ذكر إذ تشمل أيضا النشاط البشري والموقع الجيوسياسي وما يتركه من مضاعفات على هذه الدولة أو تلك وهو ما تتزايد أهميته وسط العولمة وما تفرضه من معادلات تطال الدول الكبرى والصغرى. 

اترك تعليقا