أنطوان بطرس - قياس عامل المعرفة في الإقتصاد القومي
“ما إن يولد كائن ما أو يماط اللثام عن ظاهرة جديدة حتى تستولى علينا رغبة شديدة لقياس نموّها“.
“وحينما نتمكن من قياس ما نتحدث عنه والتعبير عنه بالأرقام، نكون حينئذ قد كوّنا جزء من المعرفة عنه. وعندما نفشل في قياسه والتعبير عنه بالأرقام فان معرفتنا به تظل هزيلة وغير كافية. قد يكون ذلك بداية معرفتنا به ولكننا بالكاد تقدمنا نحو حافة العلم“.
ظلّت أهمية اقتصاد المعرفة غير محددة بسبب فقدان التعاريف الدقيقة والمفاهيم الواضحة والمقاييس القابلة للحساب والاختبار والتي تمكّن من تحديد قيمة المعلومات والخدمات. فالمعرفة لا تخضع لقوانين الطبيعة في حفظ المادة وهي مجردة يصعب قياسها. إنها من نوع الكل أكثر من مجموع الأجزاء بمعنى ان قيمة الشيء تزداد بالمعرفة لا بالجهد. ومثلما وضع ماركس نظرية “العمل أساس القيمة” فاننا نحتاج اليوم شيئا مماثلا على غرار «المعرفة أساس للقيمة». فميدان الاقتصاد الجديد بأمس الحاجة إلى نظرية. تتيح استخدام إحصائيات صارمة في دقتها تسمح بالإجابة عن الاسئلة التالية: ما هو حجم الاقتصاد المعرفي، ما حجم مكوناته، كيف نقيم أداءه، أين ينمو وبأية سرعة، وهل الاستثمار في المعرفة حقا يفوق الاستثمار في رأس المال المادي رغم ما يقوله البعض من أن “علم وصف المعرفة وفهمه وقياسه سيظل دوما ناقصا ودون الكمال”.
يعتبر فريتز مشلب من أوائل الذين تصدوا لدراسة الاقتصاد في مرحلة ما بعد الصناعة. وهو لم يعتقد أسوة بمعاصريه أو سابقيه، أن الاقتصاد في مرحلته هذه ليس سوى اقتصاد عادي تحت مسمى آخر، فعكف على رسم صورة إحصائية شاملة لقطاع الصناعة و نشر دراسته هذه عام 1958 وقد توقع فيها أن تتجاوز المهن المنتجة للمعرفة بحلول العام 1959 المهن الأخرى على صعيد الناتج المحلي الإجمالي وحدد إسهام هذا القطاع المعرفي بـنسبة 29% من هذا الناتج. لكن رحيله المبكر حال دون استكمال مقاربته وان كان قد اعتمدها من بعده آخرون.
جاء مارك بورات بتكليف من الحكومة الأميركية ليكمل المهمة وظهرت دراسته الرائدة في 9 مجلدات (1967 - 1977) ضم فيها، إلى النشاط المعلوماتي، الصناعات والمهن التي تقوم وظيفتها الرئيسة على إنتاج المعلومات الثمينة اقتصاديا، ومعالجتها وتوزيعها، وبالتالي فقد درس حجم اقتصاد المعلومات الأميركي وبنيته بأسلوب جديد مغاير.
ومن أجل أن يقيس بورات حجم اقتصاد المعلومات قسم الاقتصاد إلى قطاعين مختلفين ولكنهما غير منفصلين الأول “معني بتحول المادة والطاقة من شكل ما إلى آخر” والثاني “معني بتحويل المعلومات من نمط ما إلى آخر”. وقد أطلق على القطاع الثاني اسم اقتصاد المعلومات.
عرّف بورات المعلومات على أنها “البيانات التي جرى تنظيمها وتبادلها”. أما النشاط المعلوماتي فقد عرفه بكونه يشتمل على “جميع العمال والآليات والبضائع والخدمات الذين يستخدمون في معالجة المعلومات والتلاعب بها وثشرها”.
ثم ميّز بورات بين القطاعين الأولي والثانوي وأدرج ضمن الأول الصناعات التي تنتج بضائع وخدمات بينما أدرج ضمن القطاع الثاني النشاطات المعلوماتية التي تستخدم كإضافات إلى عملية إنتاج البضائع والخدمات.
أبرز القطاعات والنشاطات التي أدرجها بورات ضمن القطاع الأولي هي إنتاج المعرفة واختراعها، البحث والتطوير و الخدمات المعلوماتية الخاصة، توزيع المعلومات و الخدمات والاتصالات البعدية، والتأمينات، ومعالجة البيانات والمعلومات و المنتجات المعلوماتية كالآلات الحاسبة والكمبيوترات وأشباه النواقل، بالمقابل ضمّن القطاع الثانوي جميع الخدمات المعلوماتية التي جرى إنتاجها من أجل الاستهلاك المحلي من قبل الحكومة والشركات غير المعلوماتية.
وقد تبين لبورات أن الناتج القومي الإجمالي الأميركي للقطاع الأولي قد قفز من 19.6 % عام 1958 إلى 24.8 % عالم 1972 بينما ارتفع القطاع المعلوماتي الثانوي من 23.1 % إلى 24.4 % خلال الفترة نفسها. (توقعت دراسة لحجم الاقتصاد أجريت عام 2004 قام بها عدي أبته (Uday Apte) أن يبلغ حجم قطاع اقتصاد المعلومات نسبة إلى الناتج القومي الإجمالي، 46% عام 1967، ثم 56% عام 1992، ثم 63% عام 1997).
إجمالا درس بورات أكثر من 440 مهنة تنتمي إلى 220 صناعة حدد فيها الوظائف المعلوماتية ومدى إسهامها في الدخل القومي مستبعدا الوظائف التي يمكن ان يكون هناك اي جدال حول موقعها وقدر نسبة إسهامهم بــ 21 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي. مما يعني ان كلا القطاعين شكل 46% من الناتج القومي وأكثر من 53 % من الإيراد”.
اترك تعليقا