أنطوان بطرس - حينما تعيدنا المعرفة إلى المجهول

يعود مصطلح الناتج المحلي الإجمالي إلى عالم الاقتصاد سيمون كوزنتس الذي استخدمه في تقرير رفعه إلى الكونغرس الاميركي عام 1943 عن موضوع الرفاه. وبعد مؤتمر بريتن وودس عام 1944 أصبح المصطلح الأساسي لقياس اقتصاد البلد. ولكن لكثير من علماء الاقتصاد تحفظات كثيرة عليه أبرزها صعوبة قياسه من الأساس، وعدم جواز اعتبار تقدم أو تراجع الدخل الاقتصادي مرتبط بتقدمه او ترجعه هو. أضف الى ذلك انه يدون ثروات البلد المستقبلية كموجودات دون أن يحسب حسابا لحصة الاجيال المقبلة منها. و أخيرا وليس آخرا ـ والأهم عدم أخذه بعين الاعتبار الضرر اللاحق بالبيئة وإهمال حساب ذلك في تقييم الإقتصاد القومي. وهذا أمر حديث جداً في مناقشات اروقة الإقتصاد.

ومما يشكل صعوبة حسابية أن الأزمات الصحية العامة التي تصيب مجتمع ما كعدوى تصيبه مما يستدعي زيادة في التواصل مع الجهات الطبية وبالتالي زيادة في الإنفاق فيرتفع رقم الناتج المحلي في القيود. وبالمقابل اذا جرى اقتطاع مزيد من الأشجار لأغراض الصناعة، لإنتاج الورق مثلا، ارتفع الدخل أيضا وانخفض في الوقت نفسه حجم الثروة الوطنية.

تكمن المعضلة الرئيسية في كيفية قياس الأوضاع والظروف البيئية . كيف نقيّم مثلا قيمة شجرة أرز عمرها مئات السنين، كيف نثمّنها حسابيا في تقديرات الإنتاج المتداولة كالناتج القومي الإجمالي و الدخل القومي. كيف نقدّر كلفة الأثر التراكمي للضرر البيئي. وفي الوقت نفسه كيف نقدّر التجدد في الطبيعة؟ وقد وضع مكتب الإحصاء الالماني « ديستاتيس” تقديرات لبعض عناصر البيئية الرئيسية كتقدير كمية الانبعاثات الغازية والتلوث المائي والهوائي ونضوب الموارد والتغيرات المناخية ونضوب الأوزون. ومن الامثلة على ذلك تقدير مدى انخفاض في نضوب الموارد خلال فترة معينة وكذلك تقدير استعمال المياه ودرحة اخفاض انبعاث الكربون. كل ذلك ليجري حسابه دورياً.

من دون الأخذ بعين الاعتبار لهذه المسائل فالناتج المحلي الإجمالي ميزان غير دقيق. وقد اعتبره الاقتصادي النمساوي فرانك شوساك تعبيراً أجوف لاصلة له بواقع الأمور وبالتالي لا قيمة له في التحليل الاقتصادي. كما وأن عددأً كبيراً من علماء الاقتصاد في القرن الماضي انتقدوا هذا المعيار بشدة وأيدوا إلغاءه من أبرزهم كوزنتس نفسه.

والاتجاه الغالب اليوم هو في تمثيل الأنظمة الإيكولوجية ( ecosystems) عند احتساب مكوّنات الناتج المحلي الإجمالي والدخل القومي. ويعتمد تحليل مسيرة الاقتصاد التقليدي نحو اقتصاد المعرفة، إما على إعادة النظر بشرعية الناتج المحلي الإجمالي وصلاحيته و أو على تطوير مفهومه وأسسه ومكوّناته.

ثمة أمر لا يقل أهمية وهو كيفية تقييم الموارد الجديدة المجردة لإضافتها إلى تقديراتنا للثروة. كيف يمكن تقييم معرفة جديدة انبثقت من اكتشاف او اختراع؟. فالتفريق بين الاختراع والاكتشاف يؤدي إلى انعكاسات كثيرة في اقتصاديات المعرفة. المعروف أن مقدارا كبيراً من المعارف ينتج عن اختراعات بمعنى أن هذه المعارف المكتسبة لم يكن لها وجود سابق في الطبيعة في حين أن معارف اخرى تنبثق من اكتشافات وكان وجود ها غير ظاهر. والفارق بين الإثنين يمكن أن يكون غامضاً في بعض الحالات. مثال على ذلك أن المطرقة هي اختراع ولكن استعمال المطرقة للمرة الأولى، وكانت عبارة عن حجر كبير تم نحته بالشكل المناسب، أتى على الأرجح عن طريق اكتشاف. يستطيع المرء الادعاء بأن الملكية الأدبية هي من الحقوق العائدة إلى الاختراع وليس إلى الاكتشاف. وقد يستطيع المرء الحصول على براءة اختراع عائد إلى آلة جديدة، ولكنه لا يستطيع الحصول على براءة خاصة بنبع مائي، حتى إذا كان هو من «اكتشف» هذا النبع . ومن هنا أسباب النقاش الكبير حول طبيعة ما هو جديد في بعض المواد مثل علم الرياضيات: هل الرياضيات «اختراع» أم «اكتشاف»؟ 

اترك تعليقا