أنطوان بطرس - حكم عبر التاريخ

هذه القطعة البليغة خلاصة التاريخ كما اختبره مؤرخ كبير. دور تبدل الأحوال هبوطا وصعودا وببلاغة لا نجاريها. كيف تتقدم ظروف الشعوب وتتراجع. متى تغور ومتى تفور. وكيف يحصل ذلك في الزمان والمكان. وبالتالي متى نتقدم ومتى نتراجع ومتى نفيد من مجرى سير الامور ومتى نركن وننتظر. وليس من الهين أن يستوعب المرء حركة التاريخ بهذه العبارة الصغيرة وأن يكون واضح الرؤيا في مراقبتها. أن يجمع العالم في منظار صغير ويرى أمامه أعاصير الشعوب وثوراتها وسكونها وخيراتها ويلاحظ سقوط المنتصرين وارتفاع الساقطين في كل دورة من دورات التاريخ حربا وسلاما، علماً وأدباً، هندسة وعمارة، فناً وموسيقى.

على الجانب الآخر يفتح لنا التاريخ صفحاته لنطلع على حكمة أخرى لا تقل قيمة وإن اختلفت أسلوباً. فيها من الرقة والنعومة والطرافة والقدرة ما يندر مثيله. عبارة شامخة في الأدب.

تقول العبارة: “العلم في البداية طعمه مرّ ولكن مذاقه في النهاية أحلى من العسل”. نقشت هذه العبارة في خراسان بالخط الكوفي وقدم الصحن هدية لمتحف اللوفر وها هو يعرض عند مدخل المجمع الشرقي للمتحف، وهو جناح الإسلاميات، بمعرض اللوفر. إنها شهادة للاحترام الكبير الذي يكنه العرب والإسلام للعلم بأحلى تجلياته. وباعتقادي لم يحدث في التاريخ ان وضعت أمة أو حضارة أو عقيدة شأنا علمانيا بهذا السمو شعاراً لها رغم ما يبدو عليه من طرافة.

صنع هذا الصحن في خراسان بين القرنين الحادي عشر والثاني عشر للميلاد وقد قدمه إلى المتحف الفونس خان عام 1935 وحرر ملكيته الأدبية بحيث لا توجد قيود تحول دون الكتابه عنه وتصويره ونشر صوره. وبعيدا عن صورة الاحترام الشديد الذي يكنّه العرب والإسلام للعلم، فإن ما ترتب على ذلك من تقدم علمي وانجازات حضارية قاموا بها فعليا كفيل بأن تثبت ليس أدبهم فحسب بل تأدبهم.

وليس هناك من أدنى شك بأن التحولات كالجسد الحي تختفي وتنطفئ ثم تفور من جديد في مكان آخر وتروي الظامئين متنقلة من مسرح إلى آخر. ولا شك بان هذه الصورة للمعرفة هي الأكثر عطاء طالما مذاقها هو العسل. وإذا كان الشيء بالشيء يذكر فلنذكر أن الحضارة حينما نقش هذا الصحن كانت مزدهرة بالمؤسسات العلمية في العالمين العربي والإسلامي، في حين كان الغرب بالمقابل غارقاً في سبات الجهل. لذا عرفت تلك الفترة في مراجع التاريخ الغربي “بالعصور المظلمة”. قلائل يعرفون أن نجوم السماء السابقة لاختراع غاليليو للمنظار المقرّب، تحمل كلها أسماء عربية دليلا على هوية من اكتشفها. وبالمقارنة تكشف أعمال الرسام الألماني هيرونيموس بوش, إبن القرن الخامس عشر م، واقع اوروبا المتردي علميا. ومن أشهر لوحاته تلك التي يبدو فيها أحد المرضى جالسا بين يدي الطبيب بينما الطبيب يفتح له رأسه اعتقاداً منه أن المريض مسكون بالشيطان وينبغي، حسب العرف الطبي الأوروبي آنذاك، اخراج الشيطان منه. وتبين اللوحة أن الطبيب شق رأس المريض وقام بتدليك دماغه بالملح. وكانت النتيجة، كما هو متوقع، وفاة المريض.

وتمتلئ المتاحف باللوحات عن جوانب عديدة من أعمال العظماء وتكشف تفاصيل جديدة عن مجرى الحضارة في جوانبها المختلفة. وكثيراً ما تهمل الأعمال الفنية في “التتخيتات” فتنسى على مر الأيام إلى أن يتدخل القدر ويميط اللثام عمّ نسيه الزمن.

هذه النقوش تكشف أيضاً مزاج الأمة وبيئتها العامة في مرحلة من المراحل، أي عند فوران العلم وخصوبته، فتزدهر البيئة وتزداد خصوبتها، أما إذا كنا من أصحاب الحظ السيئ وضربنا بالجفاف العقلي فما علينا عندئذ سوى أن نبحث، لا عن صحن عسل، بل عن قفير نحل. 

اترك تعليقا