سرّ الدولة في الأمن العام - نقولا ناصيف
في كتابه يعالج ناصيف الأمن العام في حقبات خمسة من رؤسائه لاسيما في المرحلة الأولى التأسيسية .
- الحقبة الأولى أو النواة: ادوار أبو جودة (1945-1948).
من ابرز أعمال تلك المرحلة مراقبة الأحزاب السياسية، فيورد أن الأمن العام أولى اهتماماً خاصاً بمراقبة الأحزاب واجتماعاتها، واخصها المحظورة كالحزب السوري القومي الاجتماعي والحزب الشيوعي اللبناني. بخبرة احتفظ بها من مديرية الشرطة، ارتأى رئيس الدائرة المفوض بشارة قهوجي توجيه الانتباه الى هذا الجانب من جمع المعلومات. منذ منتصف الأربعينات صعدت، بقوة، الأحزاب السياسية بعدما اضطلعت بأدوار متفاوتة في معركة الاستقلال وتحديد الخيارات الوطنية والسياسية الخارجية للبنان مع سوريا والعرب وكذلك مع الغرب ودخلت بعقائد متنافرة في نزاعات محلية في البلدات و القرى، وفي التنافس على بث الدعاية واجتذاب المؤيدين والأنصار في أوساط الشبان في أحيائهم ومدارسهم .
بإيعاز من بشارة قهوجي، أصدر مدير الأمن العام في 18 آذار 1946 مذكرة خدمة رقمها 16 حددت لموظفي المديرية تعليمات مراقبة نشاطات الأحزاب والجمعيات تلك، وأبرزت دوافع المهمة كان قد تولى صوغها رئيس الدائرة: “للاجتماعات العامة والسرية ناحية خطيرة في الحركات الاجتماعية يتعين على الأمن العام إعارتها انتباهه، ووسيلة ناجعة للتأثير في المجموع وإثارة الرأي العام، لاسيما السرية منها الموجهة في الغالب ضد سياسة الدولة وسلامتها. يقتضي تتبع نشاط الأفراد والأحزاب والمنظمات لمعرفة أوقات اجتماعاتها وأمكنتها ومراقبتها في أثناء انعقادها، بحضور الاجتماع إذا كان من الحفلات العامة المأذون بها أو اعتماد احد الأشخاص المخلصين لجمع المعلومات الوافية منه، أو استقصاء الأخبار سراً من المجتمعين أنفسهم والمطلعين الصادقين”.
ويعتبر ناصيف أن أبو جودة” لم يترك وراءه تأثيراً باقياً في الأمن العام” واتسم ترؤسه إياه بمرحلة انتقالية قصيرة افتقدت الخبرة والتنظيم وسادها بعض الفوضى”. فقد استمد حضوره وتمرسه بدوره من الرئيس بشارة الخوري لكنه غادر موقعه بطريقة غامضة حين انتقل إلى المديرية العامة لوزارة التربية. ولاحقاً في عهد الرئيس كميل شمعون صرف من الخدمة. فانصرف إلى العمل المصرفي وترشح للنيابة في العام 1960 ولكنه خسر.
- الحقبة الثانية : أو المفرد، فريد شهاب (1948-1958)
أمضى فريد شهاب أطول فترة حتى اليوم على رأس المديرية إذ امتدت 10 سنوات حفلت بالعديد من الأزمات لاسيما في العامين 1952 واستقالة الرئيس بشارة الخوري وأزمة العام 1958 في نهاية عهد الرئيس كميل شمعون. ومن أعماله:
بين عامي 1957 و1958 نشط قسم المحفوظات السرية وباتت مكانته متقدمة في المديرية. عمم فريد شهاب آنذاك على الوزارات والإدارات الرسمية والبلديات وقيادة الدرك ومديرية الشرطة عدم تعيين موظف أو تطويعه قبل الحصول على موافقة الدائرة السياسية في الأمن العام وتحققها من سيرته وسلوكه وانتمائه إلى سياسيين أو أحزاب ولاسيما منها المحظورة، وعدم صدور أحكام قضائية في حقه. ضم القسم إلى خزائنه ايضاً خلاصة تحقيقات كان يجريها الرئيسان المتعاقبان لدائرة التحقيق حسين نصر الله وبشارة قهوجي قبل إحالة الموقوف على القضاء. فور اعتقال مشتبه به، اعتادا الاستفسار من قسم المحفوظات السرية عن ملفه لديه والمعلومات الوثيقة الصلة به، واحتمال وجود سوابق بغية إحداث ربط بينها. يروي الرئيس السابق لمجلس شورى الدولة القاضي يوسف سعد الله الخوري (1983-1990): على أثر نجاحه في مباراة تعيين مساعد قضائي عام 1955، أرسلت الدائرة السياسية في الأمن العام في طلبه، وأبلغت إليه تعذر الموافقة على تعيينه بسبب انتمائه إلى الحزب السوري القومي الاجتماعي المحظور. عززت الحجة مسقط رأسه إحدى بلدات الكورة.
قال له بشارة قهوجي: في حياتك نقطة سوداء تمنع تعيينك.
نفى وأكد انتماءه - وكذلك عائلته - إلى حزب الكتائب. لم يقتنع رئيس الدائرة السياسية وطلب معرفاً عنه.استنجد برئيس حزب الكتائب بيار الجميل في صيدليته في ساحة الشهداء، طالباً تدخله. اليوم التالي قصد بيار الجميل والمدير العام للأحوال الشخصية فريد حبيب الدائرة السياسية وشرحا الأمر: صحيح أن أفراد عائلة الخوري في عين عكرين قوميون، لكن بيته كتائبي.
قال بشارة قهوجي لبيار الجميل مجاملاً: مجيئك إلى هنا غالٍ. لكنني أريد التحقيق.
كما اعتمد التنصت فقد خبر “المير” التنصت سنوات قبل ترؤسه الأمن العام . في التحري بداية ثم في البوليس العدلي في مديرية الشرطة. اعتاد الظهور أمام الآخرين بمظهر أنه يعرف كل شيء تقريباً. راقب حينذاك سفارات وتنصت على اتصالات هاتفية بسماعات كبيرة في ما كان يعرف بـ “طاولة الاستماع” كانت قد أنشأتها سلطات الانتداب الفرنسي عام 1939 لمراقبة البرقيات و الرسائل و المكالمات الهاتفية سعياً إلى تعقب مشبوهين يشكلون خطراً على فرنسا في لبنان. كان التنصت في صلب إجراءات توخاها الانتداب لضمان أمن جيشه ومراقبة الزعماء اللبنانيين المناوئين له ورصد مواجهتهم إياه وتنظيم مقاومتهم الوطنية له. مع تسلم السلطات اللبنانية إدارة الهاتف نيط دور “طاولة الاستماع” على أثر جلاء الجيش الفرنسي عام 1946، بالأمن العام بخبرة دنيا في ظل أدوار أبو جودة حتى عام 1948.
اتكل بادئ بدء على بضعة خطوط كان يأمر بمراقبتها. تدريجاً نظم التنصت. يتولاه موظف يصغي إلى مكالمة ويدون للفور ما يسمع في بطاقة تنصت يحيلها على رئيس المقسم الذي يرسلها بدوره بخط اليد إلى مدير الأمن العام يسجل “المير” ملاحظاته على البطاقة ويشطب ما يعتقد بأن المصلحة العامة توجب حجبه، ويحيلها بعد ذلك على الطابع على الآلة الكاتبة كي تمسي في صيغة نهائية، ترسل في تقرير مطبوع إلى رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة ووزير الداخلية و المدعي العام التمييزي والأجهزة الأمنية الأخرى، والى قسم المحفوظات السرية في المديرية. بيد أنه احتفظ لنفسه، في أرشيفه الشخصي، بالتقرير الكامل الأصلي متضمناً كل ما كان شطبه- لأسباب ودوافع مختلفة من تقارير المسؤولين الآخرين..
لا يدون في التقارير الرسمية كل ما يتنصت عليه، ولا يصل إلى المراجع إلا ما يريد مدير الأمن العام إيصاله إليها يجتزئ بعض المحتوى ،وفي الغالب العبارات النابية والشتائم والتحقير والاهانات والتراكيب الشخصية. يصل إلى رئيس الجمهورية من تقارير التنصت أكثر من سواه.
بالعربية أو بالفرنسية، أو بالاثنين معاً بعضها بخط اليد وبعض آخر مطبوع على الآلة الكاتبة. بين تلك المخطوطة أوراق كتب فريد شهاب ملاحظات ومعلومات تنصت بما فيها شتائم تناولته هو أتى على ذكرها سياسيون راقب مكالماتهم ، بعضها داخلي والبعض الأخر مع دمشق، وجهوا خلالها اتهامات شتى إليه لم يتردد في إبقائها، بخطه، في متون التقارير.
تحول التنصت مصدراً منتظماً للمعلومات والأسرار رافق سني ولايته، وافتتح سابقة وضعه في عهدة الأمن العام قبل أن تنتزعه منه الشعبة الثانية في عقد الستينات. جمع فريد شهاب التقارير الخطية و المطبوعة عن التنصت، فشكلت أرشيفاً ضخماً احتفظ به لنفسه إلى ما بعد مغادرته المديرية- وقد افتقرت إلى نسخة منه- نظراً إلى دقة المعلومات التي حواها، وخصوصاً في حقبة الخمسينات الأكثر اضطراباً التي شهدها لبنان.
- الحقبة الثالثة: او البناء، توفيق جلبوط ( 1958-1964)
كان النقيب توفيق جلبوط ضابطاً في الجيش انتدب إلى المديرية العامة للأمن العام في أول عهد الرئيس فؤاد شهاب وقد عمل على بناء المديرية العامة للأمن العام وفقاً لأنظمة المؤسسات كما أراد الرئيس شهاب، ومن إنجازاته الإدارية:
-
تشدد في تطبيق التدابير القانونية لمنح الإقامة السنوية للأجانب مذ اكتشف بطاقات هوية لبنانية مزورة تورط فيها مختارو بعض الأحياء مع شرطيين، لتسهيل حصول عدد من الأجانب المقيمين في لبنان عليها
-
قلص مهل إنجاز المعاملات وأخصها جواز السفر، بتحديد ثلاثة أيام مدة قصوى للحصول عليه، وأعد نموذجاً يكتب بحبر احمر لجواز سفر مستعجل بلا رسوم إضافية. لم تكن انقضت ثلاثة أشهر حتى أضحى في وسع المديرية إصدار 400 جواز سفر في اليوم الواحد .
-
مكن الزوجة من الحصول على جواز سفر بلا إذن زوجها بناءً على إصرارها. لم تكن التدابير النافذة تسمح، حتى ذلك الوقت، بحصولها عليه من دون موافقة الزوج.
-
فرض لأول مرة عام 1960، على الرعايا السوريين بطاقة دخول إلى لبنان بلون أبيض، أو الخروج منه بلون أحمر، بعدما كانوا يعبرون الحدود البرية ببطاقة هوية أو جواز سفر فقط . حفظ البطاقات تلك في ملفات خاصة للعودة إليها عند الاقتضاء الأمني .
-
نظم ملفات الأجانب المقيمين في لبنان، موجهاً اهتماماً خاصاً بها.
ومن الأحداث المهمة في حياة جلبوط اختطافه ليل السبت 30 كانون الأول 1961، وقع في أسر محاولة انقلاب عسكري نفذها الحزب السوري القومي الاجتماعي ضد حكم فؤاد شهاب لإطاحته. بعيد منتصف الليل، هاجم مسلحون قوميون منزله في شارع الحمراء واقتادوه بعدما مانع بادئ بدء قبل أن يرغموه. وخلافاً لرئيس الأركان الزعيم يوسف شميط وقائد المنطقة العسكرية لبيروت العقيد عبد القادر شهاب اللذين أخرجهما المسلحون من منزليهما في بيوت الضابط في رأس النبع في ثياب النوم سمح لتوفيق جلبوط بارتداء ثيابه قبل احتجازه . امتنع أولاً عن فتح بابه قبل أن يحمل على مجاراة مهاجميه. لم يكن قد أحاط بيته بحراس، ولا اتسمت علاقته بالحزب بسوء تفاهم أو خلاف ظاهر رغم معلومات وفيرة عن نشاطات أفراده زوده إياها المفتش جوزف أبو سمرا الذي اكب عليها.
فاجأته مجازفة الحزب السوري القومي الاجتماعي بعدما كان بلغ إليه، أياماً قبل محاولة الانقلاب من أحد أصدقائه الوثيق الصلة بالحزب زاره على عجل، أنه يتهيأ لعصيان مسلح يشبه إلى حد محاولة انقلاب. كشف له أن الحزب شكل فرقاً لإحداث قلاقل ضد حكم فؤاد شهاب.
- الحقبة الرابعة: أو الضمور، جوزيف سلامة (1965- 1971)
واعتبر ناصيف أن المرحلة التي تولى فيها جوزيف سلامة المديرية العامة للأمن العام في عهد الرئيس شارل الحلو الذي اختار صديقه رئيس المصلحة الإدارية المشتركة في وزارة الداخلية كمدير عام للأمن العام هي مرحلة الضمور. وقد اتصفت هذه المرحلة بتراجع دور الأمن العام وتحوله إلى مجرد مؤسسة مدنية.
- الحقبة الخامسة: أو الدور، أنطوان دحداح (1971-1977)
أتى العقيد الركن أنطوان دحداح إلى الأمن العام من سلاح البحرية في الجيش اللبناني وهو الذي تربطه أيضاً برئيس الجمهورية سليمان فرنجية صلات عائلية فشقيقه ردودريك هو صهر الرئيس المتزوج من ابنته لمياء.
ويروي ناصيف أن مدير الأمن العام تصرف على أنه رجل الرئيس الذي يمثل مرجعيته السياسية الأولى. ولأنه كذلك، كمنت المسؤولية المباشرة المنوطة به- وبإدارته الأمنية- في حماية النظام والعهد وتوفير الديمومة له في ظل الاستقرار والمراقبة الدؤوبة. من رئيس الجمهورية يستمد دوراً سياسياً يتجاوز صلاحيات نص عليها القانون. يجتهد في تفسيرها والتوسع في ممارستها وتبريرها. إلا أنه سلم بأمرة وزير الداخلية، رئيسه المباشر، عليه. لم يكتف بمنصبه. اتخذ أيضاً صفة المستشار الأمني والسياسي لرئيس ذي طباع ومزاج خاصين. لا يشارك أحداً، مستشارين أو وزراء أو قريبين منه، في قراراته.
شهد عهد دحداح الكثير من الأزمات الأمنية والسياسية التي تُوجت باندلاع الحرب اللبنانية في العام 1975. ففي 10 نيسان 1973 قام كومندوس إسرائيلي بالنزول إلى بيروت واغتيال 3 من القادة الفلسطنيين في منازلهم في فردان ما أحدث أزمة سياسية بين الرئيسين سليمان فرنجية ورئيس الحكومة صائب سلام أدت إلى القطيعة النهائية بينهما ونصح حينها دحداح فرنجية بالاستقالة لعدم قدرته على المواجهة من دون رئيس حكومة سني قوي. كما عمل على مكافحة التجسس لاسيما من الأردن وسورية.
* كتاب سر الدولة، فصول في تاريخ الأمن العام 1945-1977 لمؤلفه نقولا ناصيف، عدد الصفحات 496، الناشر المديرية العامة للأمن العام أيلول 2013.
اترك تعليقا