أنطوان سعادة - جدلية النظام والفوضى(1)

وعلى عكس مداره المحدد والمنتظم والذي يمكن التنبؤ به، فان تقلّبه غير منتظم وغير دقيق. وفي حين أن معظم الأفلاك السماوية تتدحرج كما تتدحرج الكرة في ملعب، فان هايبريون أشبه بكرة ترتطم بالأرض ثم ترتفع لترتطم بالأرض من جديد ثم لترتفع ثانية إلى ما لا نهاية. فما الذي يحصل وما الذي يجعل هذا القمر يتصرّف بهذا الشكل المحير؟

في الأزمنة الغابرة كانت فترة دوران هايبريون على نفسه (وهي الفترة التي تشكل يومه) أسرع بكثير من فترة دورانه حول زحل (سنته). وكانت حركته آنذاك منتظمة. ومع مرور الزمن أدت قوة جاذبية زحل إلى تباطؤ دوران هايبريون حول نفسه والى اتخاذه شكل بلبل (اللعبة الخشبية). وبسبب الاحتكاك المدى استمرّ في خسارة طاقته إلى أن وصل مستوى من الطاقة معادلاً لحركته غير المنتظمة. وفي غضون أيام معدودات اختفى استقرار ملايين من السنين لتحل محله في خلال ثلاث أو أربع دورات مدارية حركة تتّسم بالتقلّب العشوائي في جميع الاتجاهات.

الحقيقة أن الظواهر المحيرة المماثلة ليست محصورة في الميادين البعيدة عن حياة الإنسان اليومية، بل هي محيطة به وتحاصره في كل نواحي حياته. فالبحّار المجرب قادر على معرفة أحوال البحر، والأرصاد البحرية تستطيع أن تعرف حركات المد والجزر لفترات طويلة حتى أن هناك اليوم جداول دقيقة عنها لسنوات طويلة قادمة، في حين أن ملّاح الطائرة يعجز عن الحصول على مثل هذه التنبّؤات على صعيد الأحوال الجوية ولو لبضعة أيام وأحياناً ساعات.

حتى أن أكبر الكمبيوترات، كالسوبر كمبيوترات الأكثر تفوقاً والأسرع في عمليات المعالجة، غير قادرة على حلّ الغاز الأحوال الجوية لأكثر من أيام معدودات. فما سبب ذلك؟

حتى فترة قصيرة حاول العلماء شرح الفارق بين النظام والفوضى بطريقة مباشرة كالقول بإن هذا النظام معقد وذلك بسيط. ولكن التعقيد ليس تفسيراً كافياً لان الفوضى نفسها يمكن أن تولد عن نظام هو في جوهره في منتهى البساطة. والفارق على ما يبدو يكمن في اختلاف طبيعتي النظام والفوضى. فالعوامل المسؤولة عن حركتي المد والجزر مثلاً تتفاعل مع بعضها البعض بطريقة منتظمة يمكن التنبؤ بها سلفًا، مما يجعلها مظهراً من مظاهر النظام (order) في حين أن الطقس من جهة أخرى، يعتمد على عوامل متغيرة تتفاعل مع بعضها البعض بطريقة غير منتظمة لا يمكن توقّعها سلفاً. ومعنى ذلك أنّ الطقس ينتمي إلى عالم الفوضى (chaos) أو العماء.

في أوائل الستينات، وبينما كان العالم الأميركي ادوارد لورنتر يجري بعض التجارب في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، الذائع الصيت، لدراسة الأحوال الجوية مستخدماً الكومبيوتر لمحاكاة نموذج مبسط لنظام الأحوال الجوية، أراد إعادة التدقيق في بعض النتائج فأعاد تشغيل جهازه من جديد. ولرغبته في اختصار الوقت، أعاد إدخال الأرقام التي انتهى إليها الكومبيوتر وهي لا تختلف إلا بمقدار ضئيل عن الأرقام التي بدأ بها العملية، متوقعاً أن يتوصّل إلى نتائج مماثلة. وحينما عاد إلى مكتبه بعد ساعة لتفقد النتائج، تبيّن له أنّ الكومبيوتر أعطاه توقّعات مختلفة كلياّ. بكلمات أخرى فإن الاختلافات الدقيقة حين الادخال قد تصبح وبسرعة اختلافات شاملة عند الإخراج. وكانت تلك الملاحظة بمثابة البذرة التي ولد منها علم جديد استطاع أن يميط الللثام عن كثير من الألغاز والظواهر المحيرة المتفاوتة بين الاختلال والتعقيد والفوضى.

وفي منتصف السبعينات لاحظ العالم ميتشل فايغنباوم Mitchell Feigenbaum وكان يعمل آنذاك في مختبر لوس الاموس الوطني في نيو مكسيكو، انتظاماً في سلوك بعض المعادلات الرياضية البسيطة حينما يتكرر اجراؤها كلما أعيدت تغذية الكومبيوتر بالنتائج كمعادلات. والمعروف بالنسبة للملمين بالرياضيات أنه يمكن معالجة المعادلات لانتاج سلسلة منتظمة من الأرقام كسلسلة ذات منطق ممكن التنبؤ به، ثم كسلسلة غير منتظمة. وكانت المفاجأة أن فايغنباوم لاحظ أثناء مراقبته للأرقام وهي تحول من الإنتظام الى عدم الإنتظام ظهور أنماط رسومية جديدة. كما لاحظ أن معدلات مختلفة تماماً تنتج نفس الأنماط أثناء التحول من الإنتظام إلى الفوضى، وأخيراً لاحظ أن أي وصف رياضي لهذه الأنماط كان ينطوي دائماً على رقم كعين ثابت. وكان ذلك بمثابة تقدم كبير إذ أصبح بالإمكان دراسة الحد الفاصل بين السلوك المنظم والسلام الفوضوي.

وتكشف نظرية العماء أو الفوضى عن كون غريب بل عالم جديد برمّته ورياضيات جديدة من أساها ونظرة جذرية نحو شذوذ الطبيعة والتواءاتها قوامها أن وراء الفوضى الظاهرة في الكون نظاماً ما محيراً يمكن فهمه بواسطة وسائل حديثة وأدوات جديدة ونظرة جديدة وانه بين كل الطرق المحتملة إلى الفوضى يبدو أن الطبيعة تؤيد القليل منها.

لو إننا عدنا الآن إلى مثال القمر هايبريون وتأرجحه بين الإنتظام والفوضى لقلنا أن هاتين الحركتين المتناقضتين هما مظهران لحركة الأجرام السماوية محكومان بقوانين فيزيائية مختلفة: قوانين حتمية من جهة بالنسبة للموقع وعشوائية من جهة أخرى بالنسبة للإتجاه. بمعنى أن السحب الغازية الواقعة بين الكواكب أو الرياح الشمسية يمكن أن تعتبر مؤثرات عشوائية تؤثر في الإتجاه الذي يسير فيه هابريون. ولكن ذلك غير ممكن لأن القوانين نفسها، وهي قوانين نيوتن في الحركة والجاذبية، تفسر كلا الظاهرتين، المنتظمة في حركة هايبريون.

وهكذا يبدو الأمر أكثر تعقيداً، فما هي حقيقة الأمر إذن؟ هذا ما سنعالجه في العدد القادم.

اترك تعليقا