حنّا سعادة - صداع ما بعد الصدمة

تتأثر حالات الصداع ما بعد الصدمة ومدى إزمانها باختلافات ثقافية ونفسية رئيسية. ففي المجتمعات والثقافات حيث معدّلات الرّصانة ومقاومة الألم مرتفعة وتوقّعات صداع ما بعد الصدمة منخفضة، تكون نسبة حصول الصداع وحدّته منخفضة، أمّا الثقافات والمجتمعات المعاكسة، فتشهد صداعات متكرّرة ومزمنة. لذلك، تسجّل المجتمعات المتطوّرة حالات صداع أكثر ارتفاعاً من المجتمعات الأقل تطوّراً وهكذا يستمرّ مفهوم الصداعات ما بعد الصدمة بالتطوّر.

يمكن لصداعات ما بعد الصدمة أن تثير صداعات نصفية وتوترية وعنقودية أو صداعات ناتجة عن الضغط على العنق أو إصابتها بفعل الارتداد أو غيرها من متلازمات الصداع المختلط، والتي تؤدي كلّها إلى مفاقمة آلام الرأس الموجودة سالفاً. وهكذا يمثّل صداع ما بعد الصدمة مجموعةً واسعة من أنواع آلام الرأس، وغالباً ما يختبر المرضى أنواعٍ متعدّدة في آنٍ واحد. لذلك من المحبّذ الاستفسار من المرضى الذين تعرّضوا لإصابات في العنق أو الرأس عن أنواع الصداعات التي يعانون منها، فمع وقوع الملايين من الارتدادات والرضّات حول العالم، بات صداع ما بعد الصدمة سبباً شائعاً للإعاقات الجسدية والنفسية.

تشير دراسات مختلفة من مختلف أنحاء العالم إلى أنّ 30% إلى 90% ممّن يتعرّضون للإصابات يختبرون صداع ما بعد الصدمة. قد يبدأ الصداع بعيد الإصابة بفترة قصيرة أو يظهر بعد أسابيع، أشهر أو حتى سنوات. على الرغم من أنّ معظم صداعات ما بعد الصدمة تتحسّن مع مرور الوقت، قد يستمرّ ربعها أكثر من سنة، حتى أنّ بعضها قد يتواصل مدّة أطول وفي بعض الأحيان مدى الحياة.

عمدت إحدى الدراسات المرتقبة في سياتل (لوكاس وآخرون، الصداع، مجلّد 34(2)، 2014) إلى تتبّع 212 مريضاً تعرّضوا لصدمات، لمدّة عامٍ كاملٍ فأشارت إلى أن أكثر من نصف المرضى عانوا من الصداع وخلُصَت إلى أنّ معظم حالات الصداع هذه بدأت خلال الأشهر الثلاثة الأولى من الحادثة وإلى أنّ ثلثها كان ميالاً للاستمرار سنةً أو أكثر. نحو ثلثي حالات الصداع بدأ بالظهور بعد أكثر من أسبوع على الإصابة ونحو نصفها كان من نوع الصداع النصفي.

خلافاً للعديد من أنواع الصداع التي غالباً ما تصيب أغلبيةً نسائيةً، كان الرجال والنساء ممثّلين بالتساوي في الدراسة التي أجريت في سياتل كما تبيّن أنّ الصداع لدى الستينيين يحدث بوتيرةٍ أقلّ منه لدى الشباب.

أمّا دراسات تصوير الرأس والعنق، وعلى الرغم من إجرائها دوماً، فهي نادراً ما تجدي نفعاً. ففي حال بيّنت وجود تغييرات بنيوية طفيفة، ليس بالضرورة أن تكون هذه التغييرات مرتبطة بالحالة السريرية وقد تبقى على حالها سواء تبدّد الصداع نهائياً أم أبدى تحسّنا أم أصبح مزمناً. إن الغرض الأساسي من الدراسات التصويرية هو التأكّد من عدم وجود أي عواقب بنيوية خطيرة داخل الرأس نتيجة الرضّة أو الصدمة كالكسور أو الأورام الدموية أو الرضوض أو النزيف داخل الجمجمة أو الوذمة الدماغية.

وفي حينٍ أن إصابات أنسجة الجسم اللينة تتعافى سريعًا، لا يتمّ الشفاء من إصابات العنق بالسهولة نفسها لدى مرضى صداع ما بعد الصدمة، ناهيك عن أنّ الاضطرابات التي تصيب الرأس والعنق وتسبّب صداع ما بعد الصدمة لا يمكن رؤيتها بالمجهر كما أنّها أيضية وكيميائية عصبية كما انّه من غير الممكن رصدها إلا من خلال أدوات بحثٍ خاصّة غير قابلة للتطبيق في أغراض المعالجة السريرية. إن التغيرات غير المرئية وغير الهيكلية وغير المفهومة على مستوى الخلايا العصبية هي العامل الذي يتمّ على أساسه تحديد صداعات ما بعد الصدمة اليوم.

إدارة صداعات ما بعد الصدمة عمليّة معقّدة وغير موحّدو وعادةً ما يعمد أطباء الصداع إلى معالجتها حسب النوع التي تظهره. فإن كانت الصداعات مؤقتة أو على شكا نوبات من الشقيقة والتوتر، يتمّ وصف العلاجات المعتادة لهذين النوعين. وإن كان الصداع دائماً و مستمرًا يتمً اللجوء إلى علاجات أخرى يختارها الطبيب حسب خبرته والمؤلفات العلمية المتاحة حولها. يتمَ تخصيص العلاج على نحوٍ فردي وتختلف العلاجات بصورةٍ واسعة فهي قد تشمل العقاقير والحقن والعلاج الفيزيائي والرياضة والعلاج النفسي، كما أنّ ما قد يصلح لمريضٍ معيّن قد لا يصلح لآخر.

لا تقتصر إصابات الرأس والعنق على التسبّب بصداعات جديدة فحسب بل يمكنها أيضَا مفاقمة الصداعات الموجودة مسبقًا وإضافة انواعٍ جديدة عليها. لحسن الحظّ أنّ معظم المرضى يتحسنون مع الوقت وتبقى الأقلية التي تعاني من صداعات مزمنة تحديًا طبياً وعلاجياً قائمًا. 

اترك تعليقا