إميل البستاني-أحلام لم تتحقق

إميل البستاني (1907-1962)

الولادة

ولد إميل مرشد البستاني في العام 1907 في بلدة الدبية في الشوف في أسرة فقيرة الحال، وتوفى والده عن عمر 26 سنة بعد إصابته بداء التيفوس إبان الحرب العالمية الأولى، تاركاً زوجته وأربعة أطفال صغار فعانت الأسرة من العوز والفقر وأقدمت الزوجة على بيع أرض صغيرة كان يملكها زوجها وانتقلت إلى بلدة الصالحية قرب صيدا حيث سكن أهلها (وهم من آل غبريل من بلدة حاصبيا).

المدرسة والجامعة

انتقل إميل إلى أحد مياتم صيدا التابعة للطائفة الإنجيلية وكان يخدم على مائدة الطعام حتى يحق له أن يأكل ولا يزور والدته إلا في أيام الآحاد مقتطعاً طيلة أيام الأسبوع بعض الخبز ليحمله إلى والدته وأخوانه. وبعد مرحلة الميتم انتقل إلى المدرسة الإنجيلية في صيدا وينقل عن ابنته الوحيدة ميرنا أن والدها لشدة فقره كان ينتزع الحذاء من قدميه ويمشي حافياً على الطرق خشية اهتراء الحذاء، ومن صيدا الى المدرسة الوطنية في عاليه. وكان للحظ دور كبير في حياة البستاني إذ تبرع أحد رجال الأعمال في المهجر من آل معلوف (من زحلة) بنفقة التعليم الجامعي لطالب محتاج و متفوق وعازم على الدخول للجامعة الأميركية في بيروت وكانت هذه المنحة من نصيبه. وفي العام 1932 تخرج حائزاً على إجازة في العلوم. وبدأ في ممارسة التعليم وإعطاء دروس خصوصية حيث كانت إحدى طالباته لورا سرياني (من سريان حمص المهاجرين إلى لبنان) التي أصبحت زوجته (تزوجها في العام 1937 وتوفيت في شباط 2012 عن عمر 94 سنة) كما كان يذهب في الصيف إلى رام لله في فلسطين للعمل .

في العام 1933 غادر إلى الولايات المتحدة الأميركية لمتابعة دراسته ونصحه شارل مالك أن يلتحق بكلية ماساتشوستس للعلوم التكنولوجية حيث سعى شارل مالك لدى أفراد من آل البستاني لتوفير كلفة التعليم في الكلية .

إنشاء الكات

في العام 1935 عاد إلى لبنان بعدما حاز على شهادة في الهندسة المدنية فعمل في شركة نفط العراق لمدة سنتين وتركها ليؤسس في حيفا (فلسطين) مع شريكه كامل عبد الرحمن شركة المقاولات والتجارة-الكات التي آلت إليه بعدما تخلى عبد الرحمن عن أسهمه . توسعت هذه الشركة في أعمال البناء و والمقاولات في دول الخليج العربي وباكستان ونيجيريا واليمن ووصل عدد فروعها إلى 21 فرعاً في 17 دولة وعدد العاملين قارب إلى 20 ألفاً وحققت أرباحاً بلغت في العام 1962 نحو 30 مليون دولار (وللدلالة على أهمية هذه الشركة وعلى سبيل المقارنة فان عدد أفراد الجيش اللبناني في ذلك الوقت لا يتجاوز 14 ألف عنصر. ووصلت موازنة الدولة في العام 1962 إلى 375 مليون ليرة أي ما يوازي حينها 123 مليون دولار.

السياسي ورجل الأعمال

بروز إميل البستاني في عالم الأعمال والمقاولات والمال شكل دافعاً قوياً لدخوله عالم السياسة، فانتخب نائباً عن أحد المقاعد المارونية في دائرة قضاء الشوف في انتخابات العام 1951 ضمن لائحة تحالف كمال جنبلاط- كميل شمعون وأعيد انتخابه في الأعوام 1953 و1957 و 1960 وكان وجوده في أية لائحة يعطيها قوة ودعماً إذ كان بإمكانه الترشح منفرداً والفوز. كما عين وزيراً للاشغال العامة وللتصميم العام في 19 أيار 1956 لكنه استقال في 8 حزيران 1956 مع استقالة الحكومة ليتولى منصباً أدنى من الوزارة وهو رئاسة مجلس إدارة المصلحة الوطنية للتعمير (وأعلن أنه لن يتقاضى أي تعويض عن أعماله) التي أنشئت لأعمار البلدات والقرى التي ضربها الزلزال في آذار 1956 وكذلك المنازل التي دمرت نتيجة طوفان نهر أبو علي في طرابلس في كانون الأول 1955. فقام بعمل كبير وجبار إذ استطاع خلال فترة وجيزة إعادة أعمار ما تهدم. واستمر في موقعه حتى استقالته في 26-10-1957 ومن المشاريع التي قام بها في عملية إعادة الاعمار:

تشييد 3 آلاف منزل في القرى التي ضربها الزلزال.

في العام 1957 وضع تصميماً لمدينة جديدة في طرابلس مؤلفة من 250 وحدة سكنية مخصصة للعائلات التي جرف طوفان نهر أبو علي منازلها.

في صيدا كان حلم البستاني إنشاء مدينة جديدة في عين الحلوة لاسكان المقيمين في أحياء صيدا القديمة.

هذا النجاح المالي والإداري والسياسي إضافة إلى طموحه الكبير جعلت منه مرشحاً طبيعياً لرئاسة الجمهورية في انتخابات العام 1964 بعد انتهاء ولاية الرئيس فؤاد شهاب الذي أبدى عدم رغبته بتعديل الدستور لتجديد ولايته. لكن مقتله قضى على هذا الحلم إذ اعتبر الكثيرون أن وصول البستاني إلى رئاسة الجمهورية كان سيجعل لبنان جنة على الارض.

النهاية

كان يوم الجمعة في الخامس عشر من شهر آذار من عام 1963، وكان البستاني على موعد للمشاركة في اجتماع في عمان لمجلس إدارة البنك العربي كعضو فيه.

الرحلة كانت قصيرة إلى الأردن لكنها لم تكتمل. فبعدما جهز نفسه للسفر وأملى تعليماته لموظفي شركة الكات التي كان يملك معظمها، وغادر منزله من دون أن يوقظ قرينته التي كان يجب أن يلتقيها مساء، بعد عودته من رحلته القصيرة، ليحضرا سوياً مأدبة عشاء يقيمها رئيس الجامعة الأميركية آنذاك نورمن بيرز على شرف اللورد هارتللي لمناسبة تعيينه عضواً جديداً في مجلس أمناء الجامعة.

وغادر البستاني منزله واستقل سيارته وأمر سائقه بالتوجه إلى حارة حريك حيث منزل الدكتور طوقان لاصطحابه معه إلى عمان فوصله الساعة السادسة والنصف. ومن حارة حريك تحولت السيارة باتجاه منطقة رأس بيروت إلى منزل المهندس مروان خرطبيل وهو شاب درس الهندسة والتحق بشركة كات كمهندس معماري، وعند الساعة السابعة صباحاً وصلت السيارة وكان المهندس جاهزاً، ثم توجه الجميع إلى المطار وكان الطقس بارداً والغيوم تتجمع في الطرف الجنوبي من منطقة بيروت. على أرض المطار كانت طائرة الكات AERO COMMANDER ذات المحركين، وربانها الانكليزي جون أوغيلفي، بانتظار أوامر الإقلاع.

في الساعة الثامنة إلا ربعاً شد ركاب الطائرة الاربعة الاحزمة، وكان الدكتور طوقان إلى جانب الربان والبستاني وخرطبيل في المقعد الخلفي. وقد بدأت الرحلة نحو دمشق في طريقهم إلى عمان. وحينما وصلت الطائرة فوق صوفر اتصل الربان ببرج المراقبة في مطار بيروت ليبلغه قلقه نتيجة تراكم الجليد على دفة الطائرة بفعل الصقيع. فحذره المراقب و نصحه بالعودة فوراً إلى بيروت. وحوالي الساعة الثامنة و20 دقيقة أعاد الاتصال من مكان قريب فوق الساحل فأعطي تعليمات الهبوط. ولكن الطائرة اختفت ولم تهبط. وتلقى برج المراقبة اتصالاً من باخرة ألمانية راسية في ميناء بيروت، يفيد بأن قبطانها شاهد طائرة تسقط على مسافة ميلين وربع الميل غربي السنسول . وقد استدعى خفر السواحل وحلقت طائرة الهليكوبتر فوق البحر يعاونها سلاح البحرية بحثاً عن حطام طائرة. وروى شهود عيان أنهم أبصروا الطائرة فوق البحر وكانت في حالة طبيعية ثم سمعوا دوي انفجار فتطايرت مقدمتها، وهوت بسرعة فائقة وهي تدور حول نفسها و يقدر أنها دارت خمس دورات قبل أن تسقط في البحر فتتقاذفها الأمواج و يبتلعها البحر قبالة منطقة المرفأ.

بعد ساعتين من البحث شاهد رجال الإنقاذ جثتين طافيتين على وجه المياه تتقاذفهما الامواج العالية. وحين انتشلوهما تبين أنهما جثتا نمر طوقان وقائد الطائرة. وكان صدر الأول مشقوقاً وقد شطر قلبه إلى نصفين، أما الثاني ففقد إحدى ساقيه. كما عثر في المكان نفسه على طاقية آميل البستاني وقبعة الملاح وحقيبة البستاني ومفكرة صغيرة وثلاثة مقاعد وبعض القطع الخشبية المتناثرة. وقد أمكن الخبراء التقدير بوجود حطام طائرة على عمق مئتي متر، ولكنهم أكدوا استحالة انتشالها. ثم أبعد الحطام عن الباخرة ووضع داخل زورق للتفريغ وأمنت الحراسة عليه ومنع الناس من الاقتراب منه. ولم يعثر اطلاقاً على جثة البستاني ما جعل الكثيرون يعتقدون لفترة من الزمن أنه لا يزال على قيد الحياة .

انتهت مسيرة البستاني (كان عمره 56 سنة) سريعاً من دون تحقيق ما كان يصبو إليه. وتأكيداً على مدى شعبية ومحبة الناس له لاسيما في الشوف حيث أعاد الأعمار بعد زلزال 1956 خلفته بالتزكية ابنته ميرنا في الانتخابات الفرعية التي جرت في 28 نيسان من العام 1963(كان عمرها 26 عاماً فقط) وفي العام 1964 فاز شقيقه سامي في مقعده النيابي.

بعد 50 عاماً على وفاة البستاني لا يزال البعض يعتقد أن سقوط الطائرة لم يكن حادثاً طبيعياً بل جريمة مدبرة للحؤول دون وصوله إلى سدة الرئاسة الأولى لكن لم يتم تحديد الجهة أو الجهات المسؤولة عن هذه الجريمة.

اترك تعليقا