سعيد شعيا - بين الثورة الفرنسية عام1789 وما يعرف بالثورات العربية اليوم. أين الحلقة المفقودة(1)

وعليه، يحقّ للمؤرخ أن يطرح نموذج الثورة الفرنسية وأن يتساءل إذا ما كان هذا النموذج بكل ما ترتّب عنه من نتائج وحلول، نموذجاً ذا صلةٍ يجدي الاستشهاد به اليوم.

طوال القرن التاسع عشر، شكّلت الثورة الفرنسية بنظر أغلبية الفلاسفة والساسة مثالاً للتحرّر من كافّة أشكال العزلة والعبودية حول العالم، وعلى وجه الخصوص في أوروبا وفي الدول العربية التابعة للسلطنة العثمانية. هدفت هذه الثورة الرائدة منذ انطلاقتها إلى تحقيق التغيير على مستوى المؤسسات السياسية وبالتالي على مستوى المجتمع ككل، فأطاحت بالنظام الملكي الاستبدادي الذي كان يستمدّ قوتّه باسم القانون الإلهي وانتفضت على الاستبداد وعلى الظلامية الدينية والظلم بكافّة أوجهه. من كان ليعتقد حينذاك، في القرن الثامن عشر، بأنّ تلك الثورة من شأنها تبديل الأمور إلى الأبد؟ من كان ليتصوّر بأنّ إرادة الفلاحين الفقراء والرعاع والكادحين ستنتصر وترسم الوجه الجديد لفرنسا للقرون القادمة؟

فلنطرح السؤال على نحو مختلف: من كان ليتصوّر أنّ ميداني الكونكورد والباستيل سيبقيان، في أوائل القرن الواحد والعشرين، بمثابة قِبلة لليمين واليسار؟ هما ليسا مجرّد رمزين للتغيير بل موقعين من أبرز معالم الثورة الفرنسية. فالموقع الأول شهد على إذلال الملك لويس السادس عشر حيث تمّ تنفيذ حكم الإعدام بقطع رأسه، والوقع الثاني لا يزال يردّد صدى النّصر، نصر الشعب الفرنسي المتحّد على همجية سجن الباستيل، ذلك الرمز الممقوت والمخيف للسلطة الملكية. ولكن كيف لهذا أن يكون ممكناً؟

بعد هذه الثورة سالت أنهار الدماء ولازال الخراب والدمار الذي خلّفته محفوراً في الحجر كما في أذهان ووجدان البشر. لقد كانت فترة الاضطرابات هذه مصدراً لعناء البعض وكربهم كما كانت خطراً يهدّد نهوض البعض الآخر. لكن لا زالت هذه الثورة مثالاً حيّاً كي يواسي الناس أو كي يبنوا عليه ويستقوا منه العبر. شأنها شأن أيّ ثورة أخرى، لقد تلت الثورة الفرنسية، ثورة مضادة، فجاء عهد الرعب ومن بعده نابوليون، ولزم الأمر عقوداً لبناء ميثاق جمهوري من جديد.

لكنّ هذه الثورة بدّلت وجه فرنسا وأوروبا معها. فهل من الصحيح الاعتقاد أنّه باستطاعتنا تغيير الأنظمة من دون الحروب والنزاعات أم أنّ الحكم المستدام لا يكون إلّا عبر بذل الأثمان والتضحيات؟

ألا ينبغي علينا الاستقاء من هذه الثورة العظيمة في تاريخ البشرية أن تحقيق السلم الاجتماعي استلزم سنوات لا بل عقود من الزمن بغية الوصول إلى نتيجة بسيطة لكن منطقية وفي كثير من الأحيان مهمَلةً أو منسيّة. هي نتيجة متناسقة مع تطلعات الناس وتوقعاتهم ومتمثّلة بالرغبة بالعيش سوياً بسلام وبالمراهنة على أنّ السلم وحده يضمن للمواطنين حقوقهم وحرياتهم. بمعنى آخر، إنّ الغرض من السلام ليس مجرّد اختيار، بل هو خيار أساسي وجوهري.

هذه النتيجة، على بساطتها، تبدو صعبة التطبيق على الحياة اليومية في عالمنا العربي الذي يشهد أحداثاً نضطرّ للإعتراف بها وتبقى خارجة عن السيطرة. باختصار، إن فكرة إلغاء الآخر تعني بأنّ الآخر هو العدو وفكرة إلغاء الإختلاف هي جزء لا يتجزّأ من أي ثورة أو حراك يصبو إلى تغيير بنيوي في المجتمع، لكنّ هذه الفكرة ينبغي أن تكون خطوةً وليس هدفاً وإلا فلا يمكن تحقيق السلام.

إنّ نموذج الثورة الفرنسية ليس نموذجاً تمّت تجربته فحسب بل أصبح العمود الفقري للعديد من المثقفين العرب ومفكري القرن التاسع عشر بغية إدخال قيم الحرية والمساواة والإخاء إلى الدول العربية في السلطنة العثمانية، وهي قيمٌ لا تزال حتى يومنا هذه جبالاً يصعب علينا تسلّقها. قيمٌ تجهلها، لا بل تتجاهلها المصطلحات السياسية في عالمنا العربي الزاخر بالاضطرابات والتمرّدات. فالمتداول اليوم كلماتٌ تفتقر للمضمون، كلماتٌ فارغة في زمن يحتاج فيه الجميع، رجالاً ونساءً، إلى كلماتٍ ووعود حقيقية ترتقي بهم إلى الواقع الذي يريدونه ويتطلّعون إليه. 

اترك تعليقا