أنطوان بطرس - الطريق الطويل نحو إقتصاد المعرفة

عام 2011 ، أي بعد وفاة حايك بتسعة عشر عاماً، اختيرت مقالته « استخدام المعرفة في المجتمع” كواحدة من بين أفضل عشرين دراسة نشرتها مجلة American Economic Review خلال السنوات المئة الأولى من تاريخها.

وما من أدنى شك بأن الاهتمام المستجد باقتصاد المعرفة، هو نتيجة تطور نظريات التقويم الاقتصادي في الفكر الاقتصادي برمته. وهناك عشرات المؤلفات الحديثة عن اقتصاد المعرفة تحمل العنوان ذاته دون أي تغيير، وكأنما الكتابة في هذا الموضوع شهادة علمية ترتقي بصاحبها.

المعرفة والتطور الإنساني

 لازمت المعرفة التطور الإنساني وكانت الدافع الرئيسي وراء التحولات الحضارية. ولكنها ظلت محصورة طوال العصور في بؤر صناعية وثقافية تفعل علها من خلال مجموعة هوامش ضيقة. ورغم ذلك فقد أمكنها أن تقوم بثورة معرفية تلو الأخرى مغيّرة مسار التاريخ.

أبرز هذه الثورات تلك التي حصلت في النصف الثاني من القرن العشرين نتيجة تحوّل كياني بنيوي في الحضارة بإطلاق ثورة تكنولوجية معلوماتية لا مثيل لها من قبل. فبفعل تطوّر تكنولوجيا الكمبيوترات وجدت المعرفة مجالها الرئيسي فاتسع انتشارها وازدادت يوماً بعد يوم، وربما لحظة بعد لحظة، تلبية للطبيعة المتسارعة للتكنولوجيا، منطلقة إلى ما لا سابق لنا به. وبات اليوم أكثر من نصف الناتج القومي الإجمالي لمعظم الدول الغربية المتطورة مبنياً على الكثافة المعرفية ( knowledge intensive).

يعبّر هذا التغيير عن تحول كبير شمل بيئة الحضارة الإنسانية برمّتها وخاصة في موارد الإنسان وأدواته وقدراته. ولا شك أن النتائج البعيدة المدى للمزاوجة التاريخية الموفقة بين الكمبيوتر والاتصالات قد بانت بوضوح في مجرى الحياة الإنسانية. و إن ما تمنحه هذه المزاوجة حتى الآن من إمكانات وتسهيلات وظروف وفرص وآفاق، إنما هو عنوان لانقلاب تاريخي في موازين قوى الإنسان في علاقته مع الكون. وقد باتت التكنولوجيا، وليس رأس المال ولا زيادة الطاقة العاملة، العنصر الأساسي للنمو الاقتصادي.

كان من الطبيعي أن تؤدي هذه الثورة المعلوماتية إلى شيوع المعرفة وأدواتها بصورة لا مثيل لها. وأصبح بمتناول الإنسان من المعلوم والمعارف ما لم يحلم به أكبر مفكّري العصور الماضية. فقد مضى وقت الخصوصية التي ميزت المعرفة ولم يعد من الممكن عمليا احتكار المعرفة في عصر الانتشار الفوري الوميضي للمعلومات. فتحولت المجتمعات المبنية على الاقتصاد الصناعي إلى اقتصاديات قائمة على إنتاج المعلومات وتوزيعها، وبرز الدور المحوري للخدمات في ما تمثله من مداخيل الدول وتبدلت البنية التاريخية التقليدية للاقتصاد وهيمن القطاع الثالث على القطاعين الاول والثاني. ونشهد اليوم نهاية عهد الاقتصاد الوطني المنعزل المستقل وتحّوله إلى جزء من اقتصاد عالمي متكامل متشابك. أما المجتمع الصناعي فيتميّز اليوم بالتقسيم الآتي: ربع المجتمع فقط منهمك في عمليات التصنيع والتنمية، والباقي، أي الثلاثة أرباع يعملون في الخدمات، ومنهم ثلثان يعملون في قطاع المعلوماتية وحده. بمعنى آخر فإن رأسمالاً معيّنا حلّ محلّ رأسمال آخر. فقد جئنا برأسمال قائم إلى درجة قصوى من التركيز المعلوماتي (Information - Intensive) ليحلّ محلّ الرأسمال القائم على الطاقة المركزة (Energy - Intensive).

ثمّة عامل آخر بالغ الأهمية وهو التحوّل الجذري الذي لحق استطراداً في معنى وطبيعة الموارد الطبيعية الحيّة وغير الحيّة (المعادن، الطاقة، الأنظمة البيولوجية) نتيجة بروز المعلومات كمورد إستراتيجي جديد في الحياة الاقتصادية مكمّل للموارد الطبيعية. هذا المورد يمتاز بأن المعلومات، خلافاً للموارد الطبيعية، قابلة للتجزئة والتوسُّع والنموّ والضغط والنقل وعدم التناقص مع الاستعمال المطّرد لها. فهي لا تفنى بالاستعمال، بل، على نقيض ذلك، فإنها تكتسب قيمة مضافة مع كل استعمال جديد. وقد نادى بيتر دراكر، خبير الإدارة الشهير، إلى اعتبار المعلومات رأسمالاً جديداً كغيرها من الرساميل الاقتصادية، وقام مارك بوارت، خبير المعلومات، بخطوته التاريخية الرائدة، بوضع نظام محاسبي لتقويم عنصر المعلومات اقتصادياً بحيث يمكن ضبط قيمة هذا الرأسمال مادياً وتقويمه تجارياً. وبات من الرائج اليوم الحديث عن الرأسمال العقلي خلافاً لنظريات آدم سميث التي طبعت النظرية الاقتصادية بطابعها. ويُذكر أن سميث اختار عنواناً لكتابه الشهير « ثروة الأمم” تعبيراً عما للموارد والثروات في زمانه من دور أساسي في النشاط الاقتصادي.

وينقسم العالم اليوم اقتصاديا إلى اتجاهين رئيسيين. الاتجاه الأول يستوطن الدول المتطورة صناعياً، التي اصطلح على تسميتها بالدول ما بعد الصناعية التي تطوّر اقتصادها نحو اقتصاد يرتكز على المعلومات والخدمات وتتجه نحو استيعاب المعرفة اقتصاديا. والمقصود بذلك احتواء القطاعات الاقتصادية التي تُعنى بإنتاج المعلومات والخدمات وخلق موجودات وتكنولوجيات لمعالجة المعلومات ونشرها وتوزيعها. وأما الاتجاه الرئيسي الثاني فهو اقتصادي تقليدي غير مستقبلي يتخبط بين الصناعة التقليدية والزراعة وشيء من الخدمات.

(في العدد القادم: نمو عامل رأس المال البشري)

اترك تعليقا