أنطوان بطرس - جدلية النظام والفوضى(2)

تولى ثلاثة علماء هم جاك ويزدوم (Jack Wisdom) وزميلاه شانتون بيل (Shanton Beale) وفرنسوا مينارد (Francois Mignard)، من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا اعداد نموذج تمثيلي رياضي (model)، يشتمل على قوانين نيوتن، لحركة هايبريون. ثم عكفوا على دراسة حركته غير المنتظمة بالاستعانة بكمبيوتر سريع. ومن أجل أن يتمكنوا من “رؤية” النتيجة رسموا صورة تبين الاتجاه الذي يسير فيه هايبريون ومعدل حركة تبدل هذا الاتجاه. ولتبسيط النتائج طلبوا من الكمبيوتر أن يرسم مسارا لكل متغير مقابل متغير آخر اي الاتجاه مقابل المعدل، على راسمة ذات بعدين،كلما عبر هايبريون نقطة محددة في مداره. وجاءت النتيجة اشبه بسلسلة من اللقطات المتراكبة:نقطة سوداء (تمثل هايبريون)، تثب فوق صحيفة ورقية حيث تمثل كل وثبة مداراً واحداً. ولكن تبين أنه عندما كان الاتجاه الذي يسير فيه هايبريون يتبدل بصورة منتظمة فان هذه النقطة كانت تتحرك بانتظام في نمط بسيط. على سبيل المثال اذا كان الاتجاه يتبدل موسميا في دورة متكررة فان النقطة تثب عبر سلسلة من المواقع لتعود بالنهاية إلى حيث بدأت. أما إذا كان الاتجاه يتبدل بصورة غير منتظمة فإن النقطة المتحركة تتحرك بطريقة تلطخ بها الورقة في سلسلة من المواقع العشوائية.

وقد لاحظ الفريق أن نمط النقاط يعتمد على الطاقة التي يتحرك بموجبها هايبريون. بعض انواع الطاقة يجعل النقاط المتحركة لسلك نمطا منتظما بسيطا على شكل منحنيات مغلقة، أشبه بـ “جزر” قابلة للتنبؤ بها، وفي حين أن انواعا اخرى من الطاقة تخلق وراءها مناطق لا شكل لها مزدانة بنقاط عشوائية. واما المعادلات الرياضية المعتمدة فكانت واحدة في كلتا الحالتين ولكن حينما كان يتم تغيير احدى القيم -الطاقة- فان سلوك النقطة يتبدل من سلوك منتظم قابل للتنبؤ به إلى فوضى غير قابلة للتنبؤ بها.

هذه القصة لا تقتصر على هايبريون. والواقع أن العلماء لاحظوا أن كل منظومة تقريبا تعتمد القوانين الحتمية تستطيع ان تولد حركة غير منتظمة لا يمكن التنبؤ بها. فالفوضى من هذه الناحية لم تعد حركة خاطئة لا هدف لها بقدر ما هي سلوك عشوائي ظاهريا وذو انتظام داخلي سري. وإذا أردنا أن نعطي مثلاً واضحاً على ذلك فان افضل مثال هو عملية مزج الالوان التي تتضمن مقدارا من الانتظام الداخلي السري مهما بدت عشوائية.

- هل يبدو من ذك أنه بالإمكان التنبأ في نظام فوضوي؟

قبل فهم منشأ الفوضى لا بد من الاجابة اولا على سؤال آخر وهو: كيف يستطيع العلماء أن يتنبأوا بسلوك الانظمة الطبيعية؟ انهم يصممون نموذجا رياضيا يتألف من معادلات تقنية بالغة التعقيد. من حيث المبدأ، فان الطريقة التي تعمل بها هذه النماذج نماذج بسيطة. فالمعادلات تحدد ما الذي سيقوم به النظام بعد قليل من الفترة الزمنية الحالية اي بعد قليل مما تقوم به فعليا الان.فالمعادلات التي تماثل الطقس مثلا تحدد كيفية البدء بالطقس في حالته الحاضرة ومن ثم تحسب ما سيكون عليه بعد دقيقة واحدة فقط من الزمن. وقد يتصور البعض ان التنبؤ لما بعد دقيقة لا اهمية له، ولكن تكرار ذلك ستين مرة ينبئنا بما سيكون عليه الطقس بعد ساعة. وبتكرار هذه العملية 42 مرة نستطيع ان نتنبأ بالطقس بعد يوم، وبتكرار ذلك 563 مرة نتوقع الطقس لما بعد عام. هذه العملية تتطلب مقدارا كبيرا من العمليات الحسابية المضجرة والمتكررة. وحدهاالكمبيوترات الحديثة الفائقة تستطيع القيام بها بكل بساطة. فاذا استخدمنا السوبر كمبيوتر فإن التنبؤ بما سيكون عليه الطقس بعد عشرة أيام، عملية تتطلب حوالي الساعة. ويتضح من ذلك لماذا لا يستطيع الخبراء أن يعطوا توقعات لما سيكون عليه الطقس بعد سنة مثلا. في حين أن حركة المد والجزر التي تعتمد على موقعي الشمس والقمر نسبة الى الارض يمكن أن تطبق عليها عمليات الخطوة خطوة نفسها ليس لسنة واحدة فقط بل إلى قرون.

فما هو سبب الاختلاف إذن، وبالتالي كيف تنشأ الفوضى وما هو كنهها؟

هذا ما سوف نتابعه في الحلقة المقبلة. 

 

اترك تعليقا