فينيقيا في العصر المتأغرِق

الشهرية – العدد 76 – شباط 2010

7

فينيقيا في العصر المتأغرِق

الدكتور حسان سلامة سركيس

منذ ما قبل حملات الإسكندر المقدوني ضد الإمبراطوريّة الفارسيّة ودخوله المدن الفينيقيّة سلماً أو حرباً، كانت تلك المدن تقيم علاقات مختلفة الأشكال مع المدن الدويلات الإغريقيّة. فبعد انتهاءالحروب الميديّةالتي وسَمَت بتداعياتها القرن الخامس، شهد القرن الرابع دخول آلاف المرتزِقَة الإغريق في الجيش الفارسي، الذين كان يتمّ تجميعهم في فينيقيا تمهيداً للهجومات المتلاحقة على مصر. وقد أدخل هؤلاء، إلى جانب التجّار، عدداً من التقاليد والعادات الإغريقيّة إلى فينيقيا.

بالإضافة إلى ذلك كان تعايش الإغريق والفينيقيّين في قبرص يُسهم في توطيد العلاقات التجاريّة والثقافيّة بين قبرص والمشرق. فانتشرت الثقافة وكثيرٌ من التقاليد الدينيّة والرياضيّة والفنيّة اليونانيّة في المدن الفينيقيّة، الأمر الذي يفسّر اندماج الفينيقيّين السريع في إطار الحضارة الإغريقيّة التي سادت المنطقة في عصر خلفاء الإسكندر.

ومن بين أبرز تأثيرات الإغريق على الفينيقيّين في تلك الفترة تعرّف هؤلاء أهميّة النقد في التعامل التجاري. ومن المعروف أن اختراع العملة تمّ في القرن السابع على يد الليديّين، وهم من شعوب آسيا الصغرى الذين تأثّروا بالثقافة اليونانيّة، وكان من بين أبرز ملوكهم وأغناهم ثروةًكريسوسالذي ملك في القرن السادس. وابتداءًا من أواخر القرن الخامس أو بدايات القرن الرابع، أخذت مدن جبيل وصور وصيدا وأرواد وطرابلس ودورا (خربة البرج، جنوب الكرمل) تسكّ نقودها الفضيّة المزيّنة برموز فارسيّة أو يونانيّة أو محليّة.

ومن الجدير بالذكر أن التأثيرات الإغريقيّة المختلفة أخذت تحتلّ حيّزاً هامّاً في حياة الفينيقيّين اليوميّة وعاداتهم. وما لبثت اللغة اليونانيّة أن أصبحت لغة أهل المدن الساحليّة. وأدّى انتشارها إلى اضمحلال اللغة الفينيقيّة التدريجي، بحيث أنها اختفت تماماً من الرُقُم في غضون القرن الثاني ق.م.، ولم تعد تظهر كلغة مكتوبة إلا في بعض المأثورات المنقوشة على المسكوكات. أمّا في المناطق البعيدة عن مجال التأثير الإغريقي، فقد بقيت الآراميّة، بلهجاتها المختلفة، اللغة المتداوَلَة بين عامّة الناس.

على اثر وفاة الإسكندر سنة 323، تقاسم قوّاده الإمبراطوريّة العظيمة التي أسّسها. وبعد أن كانت فينيقيا موضع صراع بين مصر من جهة والإمبراطوريّات القاريّة التي انطلقت من بلاد الرافدين من جهة أخرى، أصبحت مجدّداً في قلب الصراع بين بطالسة مصر وسلوقيّي الشام والعراق. وكانت مدنها تنتقل بحسب الظروف من سيطرة أحد الطرفين إلى سيطرة الآخر. وغالباً ما استفادت من تلك الأوضاع للحفاظ على بعض حقوقها في إدارة شؤونها الداخليّة وسكّ عملاتها.

في غضون القرن الثالث ق.م.، أخذت بعض القبائل العربيّة، كالأنباط والإيطوريين، تتوغّل في أنحاء الشام وتستوطن فيها. وفي أواخر القرن الثاني وبدايات القرن الأوّل ق.م.، وبسبب الفوضى التي بدأت تعصف بالمنطقة بسبب الخلافات بين أجنحة السلالة السلوقيّة، تمكّن الإيطوريون من اقتطاع مناطق نفوذ لهم، لا سيّما في البقاع الشمالي، حيث أنشأوا مدينة خلقيس، وجعلوها عاصمتهم بسبب موقعها الذي يتحكّم بعقدة طرق جبليّة تربط البقاع بالداخل السوري من جهة، ووادي الأردن وفينيقيا الجنوبيّة من جهة اخرى. وربّما ينبغي البحث عنها بين تضاريس جبال لبنان الشرقيّة، شرقيّ بعلبكّ، التي كان الأيطوريّون يتولّون رئاسة الكهنوت فيها. كذلك سيطروا على معظم الطرقات والممرّات التي تصل البقاع بالساحل المتوسطي، عبر جبال لبنان الغربيّة، وأنشأوا إمارة عرقا التي تحكّمت بمعظم أنحاء لبنان الشمالي، واقاموا في المناطق المشرفة على البحر قلاعاً وكهوفاً محصّنة، يشنّون منها الغارات على المدن الساحلية، كجبيل وبيروت.

في ظلّ تلك الفوضى وتداعياتها الاقتصاديّة والاجتماعيّة بسبب عدم قدرة الإدارة السلوقيّة على وقف هجمات الأيطوريّين أو وضع حدّ لنشاطات القراصنة الذين كانوا يهدّدون الملاحة في المتوسّط الشرقيّ، استدعى السلوقيّون«تيغران»، ملك أرمينيا، لبسط الأمن في المنطقة. فاحتلّ معظم أرجائها من دون مقاومة تُذكَر عام 83 ق.م.

شهدت المنطقة في عهد تيغران فترة ازدهار وسلام وتمتّعت بعض مدنها بالاستقلال الذاتي وحق سك النقود، كما حصل في بيروت عام 81/80. غير أنّه لم يتمكّن من إنجاز مهمَته، وانسحب سنة 69 ق.م. الأمر الذي أفسح في المجال أمام بعض المغامرين لإنشاء «ميليشيات» بهدف حماية مدنهم من غارات القراصنة وعرب جبال لبنان. ولم يكن لهذه الظاهرة أن تبرز في أرجاء المملكة السلوقيّة ومدنها، لولا حالة التفكّك الاجتماعي والسياسي والعسكري التي تسبّب بها غياب سلطة مركزية فعّالة ومؤامرات أفراد الأسرة المالكة وتقاسم الفئات الحاكمة مغانم الدولة السياسية والمالية.

ما لبثت هذه الميليشيات ان تحوّلت الى أدوات قهر واستغلال. فما ان بلغته أخبار الساحل الفينيقي والداخل السوري، حتى سار القائد الروماني بومبيوس سنة 64/63 ق.م. باتجاه دمشق، ودمّر في طريقه معاقل الإيطوريين في شمال لبنان وقضى على طغاة مدن الساحل والداخل، وقطع رأسي ذيونيسوس الطرابلسي وكينيراس الجبيلي.

وبذلك بدأت روما بسط سيطرتها على المنطقة.

 

اترك تعليقا