المدن-الدويلات الكنعانيّة- الفينيقيّة

الشهرية – العدد 74 – كانون الأول 2009ول 2009

5

 

المدن-الدويلاتالكنعانيّة- الفينيقيّة

بقلم الدكتور حسان سلامة سركيس

كانت مدن الساحل الكنعاني منذ نشوئها في الألف الثالثة ق.م. تضمّ مزيجاً من الأجناس والأعراق لكلٍ منها لهجته وطقوسه.

لم يعرف الكنعانيّون أي شكل من أشكال الوحدة. وكما كانت الحال في معظم أنحاء العالم القديم، لم يكن لديهم أي شعور بالانتماء إلى أمة واحدة. وبقي الوضع على هذا النمط إلى ما بعد غزوات “شعوب البحر”، حوالي عام 1200 ق.م.، التي أتت في بعض الأحيان على الحضارة المُدُنيّة في المنطقة وأحدثت فيها دماراً ومتغيرات ديمغرافيّة وجلبت إليها بعض الشعوب الغريبة.

كانت المدينة تشكّل دويلة قائمة بذاتها، تحيط بها الأسوار، وحولها مساحة من الأراضي الزراعيّة تؤمّن لها احتياجاتها الغذائيّة، وعلى رأس كل مدينة ملك يعاونه مجلس استشاري يتألّف من أعيانها. وعلى الرغم من أن مبدأ الوراثة كان معتمَداً، فليس ما يُشير إلى كونه الطريقة الوحيدة لانتقال السلطة.

في الألف الأولى ق.م.، كانت السلطة التنفيذيّة في المدن الفينيقيّة محصورة عموماً بيد ملك ومجلس شيوخ مؤلّفٍ من كبار الأعيان. وفي بعض الأحيان، كما في قرطاجة، فكانت في يد قاضيَين مُنتَخَبَين، إلى جانب مجلس شيوخ ومجلس أمن داخلي ومجلس شعب.

وتفيد بعض الكتابات أن الملك كان يجمع بين السلطتين المدنيّة والدينيّة. ومنها الكتابة التي تركها الملك الصيدوني «تبنيت» الذي ملَك في نهاية القرن السادس ق.م. والتي يذكر فيها: “أنا تبنيت كاهن عشترت ملك الصيدونيّين، إبن اشمون عزر كاهن عشترت ملك الصيدونيّين، أرقد في هذا الناووس...”.

مع انقشاع غبار غزوات “شعوب البحر”، تكشّف القرن العاشر ق.م. عن حضارة جديدة، كان من أبرز معالمها نشر نظام كتابة جديد يختلف اختلافاً جذريّاً عن النمط المقطعيّ السائد في نُظُم الكتابات المسماريّة أو النمط التصويري السائد في النظام الهيروغليفي. وكان للصوريّين والصيدونيّين الدور الأكبر في نشره في بلاد الإغريق الذين نقلوه بدورهم إلى الرومان.

تميّزت الألف الأولى ق.م. بتأسيس مدن جديدة وإنشاء مستعمرات ومحطات تجاريّة على شواطىء المتوسّط وجزره. وكانت قرطاجة من أبرزها. واستقبلت المدن الكنعانيّة-الفينيقيّة شعوب العالم القديم على اختلافها، لا سيّما وأن سكانها، وبنوع خاص الفئات الميسورة منهم، لم ينزعوا الى العنصريّة أو كراهيّة الأجانب. فتخلّقوا بأخلاق الفاتحين وتحوّلت حضارتهم إلى مزيج من العناصر الثقافيّة المختلفة. فتمصّروا مع المصريّين وتفرّسوا مع الفرس وتأغرقوا مع الإغريق وتلَيتنوا مع الرومان.

شهدت المدن الفينيقيّة في تلك الفترة ازدهاراً كبيراً، ونشرت بضائعها في أنحاء المتوسّط، فيما كانت أخشاب الصنوبريات وزيوتها تشكّل بضائع وسلعاً تجاريّة ثمينة أو غنائم يفاخر الفاتحون بالاستيلاء عليها في مدوَّناتهم وحوليّاتهم الرسميّة. وقد تمكّن بعض التجّار القرطاجيّين من بلوغ بعض شواطئ إفريقيا الغربيّة وتبادلوا السلع مع سكّانها. فكانوا يأتون بالذهب الإفريقيّ والعاج وبعض الحيوانات الغريبة مقابل بعض الخردة، من زجاج وخرز، التي كانت تُبهر أولائك الأفارقة.

في كثير من الأحيان تمكّنت تلك المدن من تفادي الخراب الذي كان يهددها من خلال مهادنة الفاتحين والتدافع إلى تقديم الجزية لهم. فعندما احتلّ تغلت فلاصر الأوّل (1115 - 1077) مدينة أرواد مثلاً، أسرعت جبيل وصيدا إلى إيفاد مبعوثين إلى الملك يحملون الجزية. وتكرّر الأمر عينه في أيام أشّور ناصر بال الثاني (883 - 859) الذي سار بجيشه بمحاذاة ساحل المتوسّط الشرقي من دون أن يلقى أيّة مقاومة تُذكَر، فيما كان أهل مدنه يدفعون الجزية ذهباً وفضّة وقصديراً ونحاساً وما إلى ذلك من متاع. فكان الملك يتقبّل تلك الهدايا، فيما هم “يرتمون على قدميه يقبّلونهما”!

لم تمنع الاضطرابات التي عمّت المنطقة في غضون الألف الأولى المدن-الدويلات “الكنعانيّة-الفينيقيّة” من عقد أحلاف في مواجهة بعضها البعضَ الآخر أو في مواجهة القوى العُظمى التي كانت تسعى في سبيل السيطرة على المنطقة. فقد أدّى تحالفها مع بعض المدن السوريّة ضدّ الملك الأشّوري سنحاريب (715 - 681) إلى تدميرها شرّ تدمير. فما كان منها إلا أن تخلّت عن تحالفها مع صور ووضعت بتصرّف الملك الأشوري ستّين سفينة مكّنته من محاصرة تلك المدينة والتغلّب عليها. وتكرّر الأمر عينه في أيام اسرحدّون (680 - 669) عندما تحالف ملك صيدا مع ملك كيليكيا وثار على الأشّوريّين، ممّا كلّفه حياته وتسبب بتدمير مدينته وإحراقها. وحصل الأمر عينه في أيّام البابلي نابو قد نصر (605 - 562) الذي استولى على صيدون وأرواد وحاصر صور وأخضعها.

في أيام الفرس، بين القرنين السادس والرابع، أُعيد تنظيم الإمبراطوريّة، وشكّلَت المدن “الفينيقيّة” الإيالة الخامسة إلى جانب سوريا وقبرص. وبسبب حاجة الفرس إلى أساطيل تلك المدن في حروبهم ضدّ المصريّين والإغريق، منحوها بعض الاستقلال الذاتي وحق سك العملة، بحيث أنّها شهدت عصر رخاء اقتصاديّ وازدهار عمرانيّ، لا سيّما صيدا التي أُقيم فيها قصرٌ وبستانٌ ملكيّ ومعبد لإلهها إشمون، إضافة إلى قصر وقلعة في جبيل.

 

اترك تعليقا