رسائل إلى صديق هناك(7)

من النأي بالنفس إلى النأي عن النفس

​​  بقلم جـــــــواد نــــــديم عـــدره

23 تشرين أول 2021

الصديق العزيز،

          كتبت تسأل عن حظوظ حكومة الرئيس ميقاتي بالنجاح وهل ستكون أفضل من حكومة الرئيس حسان دياب؟ كيف يا ترى "نحدّد النجاح"؟ وفقاً لما يقال لنا، علينا أن نفرح لأنّ مجرّد تشكيل الحكومة هو نجاح. هل سعر الدولار والبنزين والمازوت والدواء وهل ساعات الكهرباء ومدى توفّر وسعر هذه المواد من المقاييس؟ هل تناسي الخراب الذي حدث عمدًا أو جهلًا وتبديد ثروة الأجيال من النجاحات؟ حكومة مهمّتها التوقيع مع صندوق النقد الدولي، بعد أن تمّ تفخيخ ذلك آبان حكومة دياب، وإجراء الإنتخابات بناء على قانون هجين لا يضع ولو مدماك في بناء الدولة المدنية، أي نجاح في ذلك؟ لقد دُمّرَ المجتمع فإذ بذهنيّة ووضعيّة صراع البقاء تسيطر فيهاجر مَن يهاجر وتُهمّشُ الملايين وينقرض من لا يتكيّف مع الوضع ويكون البقاء للأقوى، والأقوى هنا القوى السياسيّة وقوى المال المتحالفة معهم. هل تنوي الحكومة التصدّي لهذه الحالة؟ طبعًا لا فهي نِتاجها، وفي بيانها الوزاريّ ما يثبت ذلك. وقد رحّبت جمعية المصارف بقدوم الحكومة داعية إياّها للمبادرة "فوراً إلى تطبيق التزاماتها حسب بيانها الوزاري... وإطلاق المفاوضات لإعداد سداد الالتزامات". لاحظ أيّها الصديق لهجة التمنّي تُغلّف لغة الحزم والأمر. هل سمعت من مصرفيًّ واحد أو سياسيًّ أنّه أخطأ؟

قام الجميع بالنأي بالنفس ومارست جميع الحكومات هذه السياسة. نأينا بتلك النفس عن التصدي لكارتيلات النفط والدواء والمستلزمات الطبيّة والطحين، ونأينا بالنفس عن كارتيل المصارف والعقار، ونأينا بالنفس عن مليون ونصف نازح سوري يدخلون لبنان معظمهم لم يتم تسجيلهم. ونأينا بالنفس عن استيراد العمالة الرخيصة وتصدير شبابنا الى الخارج ونأينا بالنفس عن عمليّات النهب المنظّم لمقدّرات المجتمع ونأينا بالنفس عن الجامعة اللبنانيّة والمدرسة الرسميّة والتغطية الصحيّة وضمان الشيخوخة. وها هو الخارج والداخل يكافئ هذه المنهجيّة والمنظومة، بعد أن كان الكلام عن إنتهاء مدّة "صلاحيّتهم"  كثير التداول. الكلام الممجوج من الخارج والداخل عن "الإصلاح" مهين ومثير للاشمئزاز لكل من يعلم حجم الكارثة.

لبنان 1920 و1943 ولبنان 1975 ولبنان الطائف والدوحة انتهى. الحياة التي عرفها اللبنانيون فنًّا وفكرا وصناعة وغلالاً وتجارةً وترفًا وحرصًا انتهت. العواصف التي ضربت الديمغرافيا والاقتصاد والتعليم والإعلام وسوق العمل وسُلّم القيم تركت لنا لبنانًا لا نعرفه ولا يفقَهُ من هم في السلطة الآن كيفيّة عكس العوامل التي أوجدَته حتّى نتمكّن من بناء لبنان الجديد الذي كنّا نحلم به. هذه السلطة ارتكبت إحدى أكبر العمليّات التخريبيّة في تاريخ الإدارات السياسية والاقتصاديّة لأيّ بلد على هذا الكوكب. ولا تزال الوجوه إيّاها مبتسمة تنظر إلينا وكأنّ ما حدث هو شأن عادي وبالإمكان "إصلاحه." وهكذا أتانا بيانًا وزاريًا يُشبه جميع البيانات.

لقد قررّت القوى التي جاءت بهذه الحكومة أنّ فترة التستّر وراء حكومة دياب قد انتهت فعافّيتهم عادت ودول الخارج أعطتهم تمديداً لسلطتهم وما المطلوب الآن إلا البحث عن ضحيّة لتحميلها كارثة المرفأ والانهيار المالي والهاء الناس حتى تتمكن هذه القوى من إعادة التموضع ومن توزيع وَهم الإصلاح والإنقاذ بهدف إلتهام ما تبقّى. تقاطعت مصالح الداخل والخارج فجاءت لغة الإنكار والإستئثار. إنكار ما فعلت آياديهم والإستئثار بما تبقّى من جثّة الوطن.

واضح أنّ ما حلّ بنا هو من فِعلهم، كمُسَيطرين على القرار، ومن فِعلنا كتابعين لزعماء وطوائف. وها هم يلجأون الى "لعبة الدم" وخطوط التماس قبل الانتخابات.

وهنا أُذكّرك بنقاشنا في الماضي عمّا حلّ بنا وهل نحن مجتمع أم لا؟ سيجد الباحث الإجتماعي صعوبة في القول أن المشكلة هي الطائفية فهي نتيجة ووسيلة وليست سببًا. المشكلة هي في تلك الأنا الجامحة عند الزعماء وعند منتقديهم. فالحديث عن "السنّة" و"الشيعة" و"المسيحيّين" و"الدروز" والآخرين بصفتهم الطائفيّة غير واقعي.  "فسنّة طرابلس" ليسوا "كسنّة صيدا" "وسنّة طريق المينا" ليسوا "كسنة التبانة" "وشيعة الجنوب" ليسوا "كشيعة البقاع" "وشيعة صور" ليسوا "كشيعة النبطيّة" "ومسيحيّو كسروان" "ليسوا "كمسيحيي جبيل" "ومسيحيّو جونية" ليسوا "كمسيّحي كفرذبيان". فلا الطوائف طوائف ولا  الزعماء زعماء. وقد أُصيبتْ هذه المجموعات من الناس (أي نحن) بتحوّلات جينيّة أو بتغيّر إحيائي Mutation فغدَونا مخلوقات غريبة عجيبة لا رابط بينها إلّا صراعات البقاء. وهكذا تلجأ القوى السياسية إلى كل الوسائل، بما فيها العنف، لرص الصفوف. خائفون نحن، معذّبون، مضطّهدون ومُغتصبون، وإذ تأتيك حكومة تقول لك: "الأمل في العيون. وتوفير إمكانيّات النهوض الإقتصادي والتعافي كي يعود لبنان بلدًا تحلو الحياة فيه". الأمل في العيون يحتاج إلى يقظة ضمير  من الجميع وإلى الإعتراف بالخطأ وبضرورة المُساءلة.

 يعود لبنان وطناً تحلو فيه الحياة حين نعود إلى تلك النفس فنعترف بما اقترفت أيادينا وندفع الثمن. فهناك أموال نُهبت وهناك أعمار وُئدتْ ومجتمع يندثر وهناك من يعتقد أنّه فوق الحساب والثواب.

 سبق لرئيس البنك الدولي ولفينسون في العام 2001 أن حذّر بأنّ السفينة المثقوبة ستغرق وتكررت هذه الصورة مع وزير خارجية فرنسا في العام 2020. أتذكر أننا تكاتبنا حينها عن قطار يسير إلى الهاوية، بدلاً من مشهدية السفينة. "قطار آلي مسبق البرمجة، يجلس في مقصورته الأماميّة سائقون ومستشارون وأصحاب نفوذ يسحبون على مساره الإقتصادي مقصورات وعربات، تجلس فيها إدارات ومواطنون يشكلون شعّبا يراوح بين التفاؤل والتشاؤم وفقًا للمناظر التي يشاهدونها، كلُّ من مقعده، وإن اعتقد بعضُهم أنّ موجّهي دفّته الإقتصاديّة الجالسون في المقصورة الأماميّة يعرفون وجهة الوصول. ماذا لو أنّ للقطار عقلًا، يُسرع حينًا ويبطئ احيانًا وتتنّوع مشاهده فيتوقّف ويسير كما يشتهي، ولا يملك أحد أن يغيّر مساره، ما لم يتمكّن من فَهم رموزه وإعادة برمجته"؟

 فمن خطّة الرئيس الحريري "آفاق 2000"، إلى "الخطّة الخمسيّة" لحكومة الرئيس الحصّ (وقد قصدت خيرًا) إلى "برنامج الثلاث سنوات". إلى حكومة "كلنا للوطن كلّنا للعمل" في 2011 إلى حكومة "هيّا إلى العمل" في 2019، إلى حكومة "مواجهة التحديّات" في 2020 إلى حكومة "معاً للإنقاذ" في 2021 كلها مشاهد سريالية بائسة في مسار قطار يخرق العباب إلى الهاوية.

"وكما قال سعيد تقي الدين: "اذا ضنت عليك الحياة بالطيّبات فروّها بالسراب". وهكذا روت الحكومات المتعاقبة والمجالس النيابية أوجاع اللبنانيّين ومخيّلتهم بسراب قطار تتكررّ مشاهد رحلته المأساوية الطويلة.

لقد أصبح واضحًا أنّ التفاؤل الذي بُثَّ حول الأموال التي ستأتي من الخارج وضبط سعر الصرف ووقف الإنهيار لم تكن واقعيّة فالدولار على إرتفاع والبنزين وإقساط المدارس والكلفة الصحيّة والوضع الأمني قد يكون على تراجع. "إنّ أشرف واجبات الحكومات حماية الضعفاء من الأقوياء". إذًا، ماذا تفعل القوى السياسية هذه الأيّام؟ الإنقاذ؟ إنقاذ من؟ أم الإسراع بنا إلى إنتخابات على جثة وطن؟ أيّ ضعفاء تحمون؟ بل أي أقوياء تقوّون؟

حرب أهليّة فقانون عفو. حرب إقتصاديّة ماليّة فعفوٌ آخر؟ إن لم نتعلّم من دروس التاريخ فنحن حتمّا سنكرّر الأخطاء. نأت جميع الحكومات عن كلّ ذلك والخشية أن ننتقل من النأي بالنفس إلى النأي عن النفس.