رسائل الى صديق هناك (3)

رسائل الى صديق هناك (3)

بقلم جـــــــواد نــــــديم عـــدره

جريدة النهار - 21 آب 2020

الصديق العزيز،

تُرى أية ذاكرة لديك حتى تعود بي إلى آب 2011 أي قبل تسع سنوات تحديداً لتذكرني بمقال لي عنوانه: "حوار رمضاني في غابة الأرز".

ولعلّه كان حلم ليلة صيف تخيّلت فيه اجتماعاً لجميع القوى السياسية في غابة الأرز (ولاحقاً على مائدة إفطار في منزل رئيس حزب القوات اللبنانية) توافقوا فيه على حل مشكلة الكهرباء وتأمين التغطية الصحية الشاملة وإعادة هيكلة الجامعة اللبنانية والتعليم الرسمي وتنظيم وإنشاء شبكة نقل عام والحدّ من ضحايا السير، والاهتمام بالهجرة والحدّ من العمالة الأجنبية والحدّ من التلوث والاهتمام بالتنظيم المدني. وقد ورد ما يلي: "أقسم الزعماء، وهم أمراؤنا وملوكنا وطرابيش على رؤوسنا، على أن يطبّقوا ما إتفقوا عليه فوراً وقرروا الإيعاز لمجلس الوزراء بإصدار المراسيم بخصوص ذلك. وحاول أحدهم طرح مسألة قانون الانتخاب واستقلالية القضاء فقيل له لننفّذ هذه الأمور ثم نناقش هذين الشأنين في الاجتماع المقبل. وطرح آخر مسألة المحكمة والسلاح فجاء الجواب سنناقش هذين الشأنين المهمين بعد تنفيذ ما إتفقنا عليه.

وطرح آخر مسألة أيهما أعتق الأرز أو اللزاب، فأصرّ حزب الله أنّ الأرزة هي الشعار السرمدي للبنان ولا نقاش في ذلك ووافقه الجميع وخرجوا باسمين. وهنا حان وقت الإفطار فأصرّ سمير جعجع على دعوة المجتمعين إلى منزله المتواضع في بشري متذكراً الإتفاق الرباعي (بين حزب الله وحركة أمل وتيار المستقبل والحزب التقدمي الاشتراكي ومسيحيو 14 آذار في الانتخابات النيابية في العام 2005) ساعياً لإتفاق خماسي. فوافق الجميع".

بكَيتَ وأبكيتَني حين بدأت رسالتك الجوابية لي بعبارة من مقالي حول الفئة الثالثة (النهار 12 حزيران 2020):

".. ويتراءى له الجوع والمرض والجثث والتجهم في كل مكان. ويسمع تنهيدة ويرى دماً ودمعاً".

كنت أتمنى أن أكون على خطأ وأن تخنقني هذه الكلمات فلا نُصاب بهذا المصاب. فمأساة مرفأ بيروت تختصر مآسينا المتراكمة منذ سنوات. وتسألني إلى متى سيستمر اللبنانيون بالسير وراء الزعماء بحجة الطائفة حيناً والعوز والمبادئ احياناً؟

حرب استمرت 15 سنة وما سألنا لا كيف بدأت ولا كيف انتهت ولم نعترف ولم نغفر. حرب أخرى اقتصادية- مالية استمرت سنوات نُهِبت خلالها أملاك الدولة وأموالها. وتحوّل البلد إلى كازينو أدخلوا الناس إليه ليلعبوا ويلهوا ظانين أننا اكتشفنا نظريات جديدة في الاقتصاد والمال لا يعرفها العالم فإذ بنا نكتشف اليوم أننا مفلسون وأنّ ودائع الناس لم تكن بأمان وإن كانت أمانة بأعناقهم. أنت لا تصدق أنهم سيعودون ذاتهم رغم الـــــ 15 سنة حرباً والــــ 30 سنة نهباً والعنبر 12 قتلاً ودماراً.

أنت محقُ حين تقول أنّ النهب والرياء في بلدنا هي من السّمات الأساسية "للريادة" سواء في دنيا السياسة أو الأعمال أو المظاهرات أو حتى الأكاديميا. وأنت محق حين تقول أنّ الأغلبية في لبنان سواء في السلطة أو خارجها لا يفقهون معنى المفاهيم المرتبطة ببناء الدولة والمصلحة العامة. أيعقل بعد كل هذه الكوارث أن لا يعلن الجميع، زعماء، أصحاب رأسمال، أكاديميون، قضاة، ضباط، مدراء عامون: لقد فشلنا وعلينا التنحّي وفسح الطريق أمام قادة جدد؟

هل تتوقع فعلاً أن يعتذروا ويعتزلوا ويسلّموا المسؤولية لغيرهم؟

وهل تعتقد أن "الثوار" مؤهلون لإدارة البلاد؟ هل تعتقد أن "الثوار" لم يختاروا قادة لهم لأنّهم يؤمنون بالمؤسسات والعمل الجماعي؟ أو لأنّ "الأنا" القاتلة تأبى إلا أن تزيل الآخر؟

أوافقك أن مأساة 4 آب يجب أن تجمعنا لا أن تفرقنا، فنعي جميعاً لماذا وصلنا إلى هنا وكيف ننهض سوية.

عن أي نهوض نتحدث ونحن نرى طائرات المساعدات الأجنبية والعربية تحطّ في المطار ولا نرى سوى مبادرات لبنانية خجولة ومحدودة من أناس لا يملكون شيئاً بينما أكثرية الأثرياء نأت بنفسها وكأنّ زلزال 4 آب أصاب مدينة غير مدينتنا بيروت.

ويأتيك الكلام من هنا وهناك. كلام.. كلام.. كلام.. ويتناسون الآية: "وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون" اعملوا ففي العمل تكون البلاغة. لنعمل على:

  1. إعادة رسملة المصارف من أموال المساهمين القادرين.
  2. إنشاء مصرف جديد يكون اسمه "مصرف لبنان الجديد" او ما شابه من قبل أفراد معروفين بحسن السمعة والقدرة المالية يكون نموذجاً ليكسب ثقة الناس.
  3.  وضع الكهرباء على المسار الصحيح وتأمين التيار 18/24 خلال عام على أقصى حدّ و 24/24 بعد عام ونصف وزيادة التعرفة.
  4. إلغاء الدعم على البنزين والمازوت الا للمستحقين المضطرين وللسائقين العموميين.
  5. اعتماد المساءلة وليس الانتقام برسم الحدود ومعالم الطريق المستقبلي. فشنق الناس وسجن الناس وإعدام الناس لا يحقق العدالة.
  6. تقييم التظاهرات والانتفاضات التي بدأت في 17 تشرين الأول والتي لا تزال مستمرة وتصويبها برامجاً وقادةً. فالثوار بحاجة إلى ثورة، وشعور بعض المتظاهرين أنهم يستطيعون التعرض للممتلكات الخاصة والعامة وللأشخاص وعائلاتهم دون مساءلة يعطيهم إحساساً بفائض القوة كما الزعماء. فالمساءلة مبدأ يسري على الجميع.

هل من دروس؟

  1. طبعاً نحن لا نستطيع الاستمرار كما تعودنا منذ 1943 وحتى الآن.
  2. وكما قال أينشتاين:

 

  • كلما زادت المعرفة

صغرت الأنا

كلما قلّت المعرفة

كبرت الأنا".

ألم يحن الوقت لنعمل جميعاً على ترويض الأنا وزيادة المعرفة؟

  1. الفاشل هو الذي لا يتعلم من التجربة ويكرر الخطأ ذاته، والطالب الكسول هو الذي يعيد صفّه، فهل أصبحنا كلنا فاشلون وكسالى؟
  2. الدول تعمل مصالحها، فما هي مصلحتنا؟ لنتفق على الإصلاحات السياسية والمالية والاقتصادية والإدارية والبيئية والتربوية والاجتماعية التي تقودنا إلى دولة المواطنة، ولنؤجل الموضوعات الخلافية الأيديولوجية للبت بها بعد التفاهم على الملفات الأخرى والشروع بتنفيذها.

صدقني حين أقول لك أن ليس لدينا إلا هذه الخيارات وإلا مصيرنا الفوضى المعمّمة بغياب كامل حتى لظواهر المبادئ والطوائف. فوضى تشبه الجريمة المنظّمة وفقاً للأحياء والمناطق. هل يعي الزعماء هذا المصير؟ هل نظروا إلى المطار وأبواب السفارات وشاهدوا الآف اللبنانيين يغادرون ليبقوا هم حكاماً في وطن بلا شعب "وبيوت بلا ناس" ويتذكرون مسرحية "ناطورة المفاتيح".

هذا هو مصيرهم ومصيرنا. هذا هو مصير أحفادهم وأحفادنا.

وبرغم المأساة بل بسببها ورغم الغضب والحزن بل بسببهما علينا القيام بشيء ما. واجبنا قول الحق والعمل له. لبنان يستحق منّا كلّ شيء.

اترك تعليقا