رسائل الى صديق هناك (2)
رسائل الى صديق هناك (2)
بقلم جـــــــواد نــــــديم عـــدره
جريدة النهار - 22 تموز 2020
الصديق العزيز،
سررت برسالتك وحزنت. السرور لأنك طمأنتني أنك بخير وأن المال لم يغيرك. إصرارك على يساريتك رغم الملايين التي جنيتها وعلى تمسكك بالقدس مدعاة للإعجاب. قد لا يتفق معك البعض لكن لا يستطيعون إلا احترامك لقناعاتك. وزاد سروري حين أخبرتني أنك على استعداد للمساهمة "بصندوق تنمية لبنان"، كهبة والتزاماً منك "برد الجميل إلى الوطن"، رغم أنك هاجرت ولم تأخذ منه إلا الهموم. وكأنك تقول لمن يتأهب، بعد تحويله الملايين إلى الخارج، لشراء الأملاك والمقدرات العامة بأبخس الأثمان: "لن نسمح لك بذلك"! حزنت لأنك سألتني عن شعوري وإذا أنا خارج السلطة أو داخلها. طبعاً أنا أعرف أنك أعمق من الذين يأتون من العالم الذكوري أو عالم لعب الأدوار على الطريقة اللبنانية. وحوارناً لا يمكن أن ينزل إلى مستوى أن أسألك عن شعورك وأنت المليونير وكيف يتآخى مع يساريتك؟ لقد اتفقنا على الصدق ونحن صغار واعتبرنا أن الكذب هو إثم الآثام، ولذلك نحن غريبان انت في غربتك وأنا في موطني. إذا اطمئن فأنا خارج السلطة! سألتني أسئلة جوهرية:
- لقد قام لبنان في 8 حزيران 1967 إثر اندلاع الحرب العربية- الاسرائيلية بتطبيق إجراءات Capital Control وذلك حتى 29 حزيران 1967 وذلك استشعاراً بالخطر وحفاظاً على سلامة النقد والمصارف والمودعين. هل يعقل أن تمر كل هذه الأشهر والكوارث المالية ولا يتم تطبيق أي ضوابط قانونية للقطاع المصرفي؟ تسألني إذا كُنا قد ظَلمنا أولئك الزعماء أيام المراهقة، أقول لك لا، وعلينا أن لا ننسى أنهم أخذونا إلى حرب أهلية حين تهددت كراسيهم. ولكن سؤالك مهم وهو برسم مجلس النواب والحكومة.
آنذاك، عقد مجلس النواب جلسته يوم الاثنين 5 حزيران 1967 الساعة 4:30 برئاسة صبري حماده بعد نحو 8 ساعات على بداية العدوان على مصر ومُنحت الحكومة صلاحيات إستثنائية وتحددت الأموال التي يمكن سحبها وطريقة التعامل التجاري. وكان قد سبق ذلك في 1 حزيران تأليف هيئة مركزية لجمع التبرعات للمجهود الوطني للقضية الفلسطينية الذي استثني من الإجراءات المصرفية. ترى ألا يستحق لبنان تأليف هيئة مركزية لإنشاء "صندوق تنمية لبنان"؟
- وتسألني أيضاً: هل يعقل أن لا نجد حلاً لموضوع الكهرباء؟ وجوابي أن الحلول موجودة وأن "صندوق تنمية لبنان" بإمكانه تمويل قطاع الكهرباء دون أن نركع أو نشحذ وخاصة إذا ما تم "التفاهم" مع من استفادوا من غياب الدولة على التبرع له.
- وتسال عن مسألة الأرقام ودور "الهيئات الاقتصادية"، و"الأموال المنهوبة" وإمكانية استعادتها. تذكر أنني دعوتك أن نفكفك سوية العبارات الشائعة ونظهر هشاشتها والمقصود من تعميمها للتعمية حيناً وانعداماً للمعرفة أحياناً. اتفقنا أن عبارة "مكافحة الفساد" هي من هذه العبارات والتي علينا الكف عن استخدامها كما ورد مطولاً في رسالتي السابقة لك.
ترى أي أرقام هذه؟ نحن في بلد لا يريد أن يعرف عدد سكانه المقيمين وأوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية وأمكنة إقاماتهم. توافقنا جميعاً على ذلك "حفاظاً على السلم الأهلي" (عبارة أخرى سنناقشها يوماً ما).
المسح السكاني غير مسموح وهذا "قرار وطني"، أخذناه منذ آخر إحصاء نفذ في 1932، إذا عن أي خطط نتكلم؟ هل صدقت أن الخلاف هو على الرقم؟ المسألة هي في ما وراء الرقم. خذ مثلاً "الهيئات الاقتصادية"، من هي هذه الهيئات؟ كم عددها؟ وهل هي "هيئات"، أو أفراد يحافظون على مصالحهم ومكتسباتهم؟ وهل "الهيئات الاقتصادية" أكثر مشروعية من مجلس النواب أو الحكومة؟ وخذ مثلاً "الهيئات الروحية"، ترى أنت وانا من أية "هيئات"؟ طبعاً لسنا من "هيئات المجتمع المدني" ولسنا من "هيئات المجتمع العسكري". علينا فهم معاني هذه العبارات واعتبارها من وسائل تعميم الجهالة. أضف إلى ذلك كلمة "الأسواق". أية أسواق والبطالة تتصاعد والشركات تُغلق؟ وهل كان هناك أسواق؟ أفراد نحن غابت عنا عبارة المصلحة العامة. نفرح ونتشابك لمصلحتنا الخاصة فقط لا غير.
تخيل أن نعيم أميوني المستشار في وزارة الاقتصاد حذر في العام 1946 في تقرير للوزارة من عدم الاهتمام بالقطاعات الإنتاجية مثل الزراعة والصناعة ومن تركيز الاستثمار في قطاعات التجارة والمال والخدمات فقط مع أهميتها، ومن الاستيراد منبهاً أن سويسرا هي بلد صناعي فليقتدي لبنان بها إذا أراد أن يكون "سويسرا الشرق". وحذر أميوني من دور الوسطاء ومن السمسرة. أين لبنان اليوم بعد 74 عاماً من كلام هذا الرجل؟
- أما "الأموال المنهوبة" فأكثرها غير منهوب بل موهوب أو متفق عليه بموجب عقود وقوانين شملت الفوائد والمقاولات والنفايات والمشتقات النفطية والدواء والمستلزمات الطبية والطحين والأملاك العامة. يكفي أن تراجع قانون "معالجة الإشغال غير القانوني للأملاك العامة البحرية" (لاحظ كلمة معالجة وهي قانوناً غير موجودة لإشغال غير قانوني) وتحديد العام 1994 لبدء الإشغال وفرض الغرامات و"تخمينات مخفضة" حتى تعرف كيف يتشارك أكلة الجبنة و"بالقانون"!.
إن إنشاء "صندوق تنمية لبنان"، قد يشكل مخرجاً للجميع وإذا كنت على استعداد To give Back”" وأنت لم تأخذ فلماذا لا يُعطي أو لا نأخذ ممن أخذ وأكثر؟ ولقد بلغني أن بعض الذين تعاقدوا مع الدولة على استعداد لتسديد عشرات بل مئات الملايين لهذا الصندوق.
تُرى هل ستؤسس الحكومة "صندوق تنمية لبنان" غداً وتطلب من الجميع وخاصة ممن استفاد من غياب الدولة وأثرى أن يدفع؟
تحدث تقرير ايرفد في العام 1961 عن الهوة بين الفقراء والأغنياء، مبيناً أن 4% من السكان يستحوذون على الثروة ويسيطرون على 32% من الدخل. الان في لبنان نحو 0.5% من الناس يستحوذون على 50% من الدخل. وإذا وجد تقرير ايرفد الوضع كارثياً آنذاك فكيف يوصفه اليوم؟ أنظر الى أبنائنا يهاجرون واسأل من سيبقى في لبنان: القامعون والمقموعون فقط؟ ولذلك يتردد السؤال لزعمائنا: أي لبنان سنترك لأحفادنا؟
أحد المؤمنين حدثني عن آية في القرآن تقول: وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ"، ومؤمن آخر يردد قول المسيح "قد يدخل جمل من خرم إبرة ولا يدخل غني باب الجنة".
ويحدثونك عن محبتهم للبنان ويتشدقون بعبارات لا معنى لها ولا لون ولا طعم لكن تفوح منها روائح النهب والدمار والموت. نعم، لبنان بحاجة لك ولكن دون أن تعود. فأنت أقوى وأكثر فائدة بعيداً عن هذا الجنون والجشع.
في وقت يسأل فيه العلماء أسئلة كبيرة عن أصل الكون وبدايته، ونهايته. وهل له بداية؟ وهل له نهاية؟ نناقش نحن البديهيات ونتصارع حول الصغائر عشائر وطوائف في الرقم، وفي الفكر وفي السياسة، وفي الحلم. ولن ننهض ما لم نعود لعمق ثقافتنا الإنسانية والعربية ونفتح عقلنا للعالم بشراً وأرضاً فنتناغم مع الخسوف والكسوف، والمد والجزر، والليل والنهار، والشعوب كلها، في رقصة كونية على أنغام المعرفة والمحبة.
اترك تعليقا