أخبارُ«هُم» رصاص

فتح الباب وركض مسرعاً نحو «التلفزيون» لمتابعة الأخبار.

7:00: بدأ مع محطّة NBN بتعليق سياسي يظهر عدم شرعيّة السنيورة وحكمة برّي وكذلك التقارب مع ميشال عون.

7:30: انتقل بسرعة إلى محطّة المنار التي أظهرت مخاطر نفايات النورماندي واعتداء السنيورة على الأملاك العامّة في إحدى القرى في منطقة صيدا، وذلك طبعاً بعد مداخلة سياسية حول الأزمة. كما شنّت هجوماً على «حكومة كوندوليزا رايس في لبنان».  

7:55: انتقل إلى محطّة LBC التي راعها انتهاك مخابرات الجيش لحقوق الإنسان وضربها اثنين على الأقلّ من المتّهمين بمحاولة اغتيال السيد حسن نصر الله، خاصّة بعد قيام ذويهم بزيارة سمير جعجع الذي هاله الأمر أيضاً. وبدأت النشرة بتحليل شامل للسياسة العالمية ولبنان في نواتها.

8:05: انتقل إلى محطّة المستقبل التي بشّرت اللبنانيين أن سعد الحريري ضَمِن مسألة الفصل السابع وأن العدالة آتية لا محالة، وأنه لا يجوز انتخاب الرئيس مباشرة من الشعب.

خلال ساعة تقريباً من متابعته الأخبار، كان ضغط المواطن القلق يرتفع حيناً وينخفض أحياناً فتتسارع نبضات قلبه وتبطئ. ثم راح يحلّل وضعه:

-1     أنا ضدّ رمي نفايات النورماندي في البحر وعلى الطرقات، أذاً أنا مع المنار والسيد حسن نصر الله.

-2     أنا ضدّ ضرب الناس وتعذيبهم، إذاً أنا مع LBC وسمير جعجع.

-3     أنا مع إحقاق العدل، إذاً أنا مع المستقبل وسعد الحريري.

-4     أنا مع تقارب السياسيين إذاً أنا مع الـ NBN وبرّي وعون.

 

ثم عاد ليحلّل مجدّداً:

a   أنا أذكر أن مسألة الأملاك التي اتُّهم السنيورة بالاعتداء عليها تعود إلى سنوات طويلة كانت المنار خلالها على علم بها لكنّها لم تذكرها، وكان نواب حزب الله يمنحونه الثقة، وأذكر أيضاً أن المنار لم تعارض دعم كوندوليسا رايس لحكومة المالكي في العراق، إذاً أنا ضدّ المنار والسيد حسن نصر الله.

a   أنا أذكر أن LBC وسمير جعجع كانا يخافان من سواطير المتطرّفين خلال التواجد السوري، ولم يطرحا مطلقاً مسألة اختفاء اللبنانيين على حواجز القوات اللبنانية، مع أنها في صلب شرعة حقوق الإنسان، إذاً أنا ضدّ LBC وسمير جعجع.

a   أنا أذكر أن سعد الحريري تحالف مع حزب الله ووليد جنبلاط والقوات اللبنانية في الانتخابات التي تشكّلت بعدها الأكثريّة، والقول إن انتخاب رئيس للجمهورية يستدعي توافقاً لأن «لبنان مبني على التوافق» هو قول غير مستقيم، خاصّة أن الأكثريّة في الوزارة لا تريد «التوافق» لأن «الأكثريّة يجب أن تحكم»، إذاً أنا ضدّ المستقبل وسعد الحريري.

 

ولأنه درس شيئاً عن نظريّة النسبيّة، «اكتشف» صحّتها مجدّداً. فنفايات النورماندي هي سامّة وقاتلة وفقاً للمنار وNBN، وهي صحّية أو حتى غير موجودة وفقاً للمستقبل وLBC. واكتشف كذلك أن هناك اعتداء على الأملاك العامّة في الضاحية فقط، وفقاً لمحطّتي المستقبل وLBC. أما في الوسط التجاري والواجهات البحرية والنهرية فالاعتداء غير موجود بالنسبة للمحطّتين المذكورتين. وكذلك بالنسبة إلى شفط رمال صور وفقاً للمنار وNBN. أما المفقودون على الحواجز اللبنانية فليسوا واقعة تذكر بالنسبة للـ NBN وLBC والمستقبل. وإذا كانت «الحقيقة» مسألة حياة أو موت بالنسبة للمستقبل وLBC، فهي لا تشمل محاولة اغتيال السيد حسن نصر الله. إذاً ما هو موجود هنا معدوم هناك، أو موجود بشكل معكوس هنالك. وكأننا في عالم النسبيّة على الإطلاق، أو حتّى في عالمي المادّة وعكس المادّة.

 

ولأنه مواطن يفكّر، عرف أن كلاً من هذه المحطّات مملوكٌ، روحاً ومادّة، من قبل الأشخاص أنفسهم الذين يتصدّرون أخبارها. وهو بالتالي لم يكن يشاهد «الأخبار» بل أخبار«هم». فكلمة «الأخبار» تفترض واقعيّة وحياديّة لا تريدها ولا تستطيعها هذه المحطّات. وفي اليوم التالي، كتب لهم أنه لن يتابع محطّاتهم وأخبار«هم» ما دام«وا» «هم» «هم».
وهكذا، اكتشف أن الخصخصة لا تعني دائماً الانفتاح، فـ «الإعلام الحرّ» في لبنان أقلّ حرّية من «الإعلام الرسمي»، عليه مراعاة الجميع.
وفي اليوم التالي أيضاً، تابع محطّة تلفزيون لبنان مترحّماً عليها وعلى أبي ملحم وأبي سليم وبونانزا.
ثم قرّر أن يشاهد محطّتي CNN والـ BBC مردّداً لنفسه «إذاً أنا مع بوش وبلير». فإذا بزوجته تذكّره أن هاتين المحطّتين بالذات كانتا قد قرّرتا (أو قرّر لهما) أن تزرعا مراسلين مع الجيشين الهاجمين على البصرة وبغداد. وكان المراسلون العاملون فيهما لا يخفون ابتهاجهم عند الانكسار السريع للجيش العراقي، علماً أنهما كانتا قد تنافستا على تصنيفهما للجيش العراقي في المرتبة الخامسة أو السادسة في العالم.
«ولكنّّهما تقدّمان برامج ممتازة»، قال لزوجته. «لا أحبّ كلمة برامج خاصّة بعد أن قام «برنامج النفط مقابل الغذاء» بالإشراف على موت أكثر من نصف مليون طفل عراقي»، أجابته. 
«إذاً أنا ضدّ بوش وبلير والأمم المتّحدة أيضاً» راح يردّد لنفسه.
وفي اليوم التالي، وجد «نهر البارد» يشتعل ثم «عين الحلوة»، قتلى في كل مكان. وسمع«هم» يتبارون، كلماتهم اليوم رصاص ودماء، فهنيئاً لأنظمة ونظم لا تعرف إلا القتل شرقاً وغرباً. دموع ودم وانهيار... أطفأ التلفزيون وجهّز بعد ذلك كتاباً سيقرأه قريباً في قطار شيّده في خياله.

* ترتبط هذه المحطّات بشكل مباشر بجهات وشخصيات سياسية معيّنة.

اترك تعليقا