الحالة اللبنانية: استبقاء النظام واستنزاف الموارد
الحلقة الثانية: لبنان قبل الطائف وبعده ، والتدخّل الخارجي، وحقبة ما بعد الانسحاب السوري (2/6)
عرضنا في الحلقة الأولى لمحة تاريخية عن أزمة الهوية ودور الزعماء. نستكمل في الموضوع حول لبنان قبل الطائف وبعده، والتدخّل الخارجي، وحقبة ما بعد الانسحاب السوري.
لبنان ما قبل الطائف
لقد ضمّن الرئيس بشارة الخوري، الذي تبوّأ سدّة أوّل رئاسة للجمهورية اللبنانية بعد الاستقلال في العام 1943، مذكّراته وصفاً للأسلوب الذي اعتمده النظام العثماني إذ حصر التعيينات في القطاع العام على أساس طائفي ومذهبي. فيصف كيف أن والده فقد منصبه لصالح ابن عمه الذي أقدم على رشوة كيليان صهر الوالي العثماني واصا باشا. كما أن الحكومة والإدارة العامة قد اتّسمت بالطائفية والإقطاعية والمحاباة حسب ما جاء في مذكّرات الرئيس الخوري: «أما الوظائف الكبرى منها والصغرى فموزّعة منذ القديم بين الطوائف: فوكيل رئيس مجلس الإدارة مثلاً ماروني، والمحاسبجي سنّي تركي ... وجعلت الوظائف الكبرى وقفاً على العائلات الكبيرة في البلاد...»(1).
لقد استبقى الانتداب الفرنسي هذا النظام. فرشوة السياسيين وأصحاب النفوذ كانت شائعة من أجل الحصول على دعمهم، كما كان التزوير يُمارس أثناء الانتخابات وكان مبدأ المحسوبيّة والواسطة هو السائد في التعيينات الإدارية والحكومية. لم يكن الفساد يقتصر على السياسيين والإدارات، بل انتشر ليشمل مختلف القطاعات وسائر أوجه حياة اللبنانيين. يعترف إسكندر الرياشي، وهو صحافي بارز في تلك الحقبة، في كتابه «قبل وبعد» كيف أن الفساد قد انتقل إلى وسائل الإعلام، مشيراً إلى الأمير لطف الله الذي كان يسعى لرئاسة الجمهورية، «لقد كان كريماً معنا – كما كان كريماً مع جميع الصحافيين الكبار في هذه البلاد الذين كانوا يجتمعون كل ليلة على مائدته الشهية... وهؤلاء الصحافيون الذين كان بينهم من يصلّي بالنهار ويفخر على العالم بتجرّده ونزاهته، ومع ذلك يبيع نفسه بالليل»(2). كان لإسكندر الرياشي دور أساسي في رشوة سكّان البقاع، فاستخدم أموالاً فرنسية «لإقناعهم» بالتصويت لصالح الانتداب الفرنسي أثناء استطلاع الرأي الذي قامت به لجنة كينج - كرين. لا تزال هذه الظاهرة متفشّية بشكل كبير في لبنان في أيامنا الراهنة.
إلا أن بشارة الخوري المتذمّر من الظلم الذي أُلحق بوالده قد اعتمد بدوره النوع نفسه من الممارسات. فاشتهرت إدارته بفسادها. وكان شقيقه سليم، الذي لقّب بالسلطان سليم، أحد أكثر الشخصيات فساداً ونفوذاً. لقد أدّى هذا السلوك في نهاية المطاف إلى حمله على الاستقالة في العام 1952 على أثر الثورة البيضاء.
شهد عهد شمعون استمرارية هذه الممارسات. أمّا العهد الشهابي فقد شهد خطوات واعدة في مسيرة إعادة هيكلة الإدارة العامة ومكافحة الفساد من خلال إنشاء عدّة مؤسّسات مثل مجلس الخدمة المدنية، ومصرف لبنان، وديوان المحاسبة، والتفتيش المركزي، والصندوق الوطني للضمان الاجتماعي. بيد أنه ثبت أن محاولات الرئيس شهاب لإصلاح النظام مع المحافظة على الطبقة السياسية نفسها والسيطرة على أجهزة المخابرات إنما هي معادلة صعبة، يتعذّر تطبيقها إذ من شأنها عرقلة كافة الإصلاحات الممكنة. لقد كثرت مؤخّراً المطالب التي تنادي بإحياء دور بعض أجهزة الرقابة هذه، إلا أن معظمها يبقى عاجزاً وغير فعّال نتيجة للتدخّل السياسي وطبيعة النظام.
التدخّل الخارجي
كل محاولة لشرح النظام وتبيان جذوره التاريخيّة لا تكون مجدية ما لم تتناول الدور الذي لعبه التدخّل الخارجي. لطالما لجأت الطوائف المتنافسة في لبنان على مرّ التاريخ إلى حياكة التحالفات مع القوى الأجنبية من أجل تعزيز سلطتها ومواقعها، بصرف النظر عن دور هذه القوى ومصالحها. يؤكّد الدكتور جورج قرم في كتابه « لبنان المعاصر، تاريخ ومجتمع»، أن التنافس بين مختلف الطوائف في لبنان لا يقتصر على النطاق المحلّي، إنما يعتمد إلى حدّ كبير على الاستعانة بالخارج، وهو يرجع هذه الظاهرة إلى العائلات اللبنانية الحاكمة التي كانت تستعين بالباشاوات العثمانيين في دمشق وعكّا (فلسطين). يشرح قرم أن كافة محاولات الإصلاح منذ ذلك العهد قد فشلت بسبب بقاء الطبقة الحاكمة الذي ضمنه التدخّل الأجنبي(3). من الأمثلة الفذّة التي تجسّد كلام قرم رسائل دي مارتيل، المفوّض السامي الفرنسي في لبنان، إلى عشيقته التي يكشف فيها كيف أيّد رئاسة إميل إده وضمنها: «وهكذا صار إميل إده رئيس جمهورية بصوت واحد زيادة، مما يجعل رئاسته هزيلة وتحت رحمتي ورحمة خصومه!»(4). ومن الأمثلة الأخرى على نفوذ دي مارتيل في السياسة اللبنانية ما ورد في رسالته التالية:
«كنت دائماً تقولين أن صداقتي لك يجب أن تجعلك صاحبة ملايين، والآن إني أعرف أنك جمعت بعضاً من هذه الملايين، ولكن يجب أن نجد لك طريقة تضاعفين فيها ثروتك، لهذا سأجعل الانتخابات النيابية القادمة باباً جديداً تكسبين فيها ما تريدين، فلا يصل نائب للمجلس إلا بعد أن يكون زارك وعمل واجبه. ومن هذا ترين كما أنا أحبك!... سأجعل المرشّحين (إدّه وخوري) لا يصلان ليوم الانتخابات إلا وكلّ منهما يكون قد فقد عقله أو فقد ماله، أو فقد الاثنين معاً...»(5)
يؤكّد مايلز كوبلاند في كتابه «لعبة الأمم،» شأنه شأن غيره من المحلّلين والمؤرّخين، أن ولاء الرئيس شمعون وخضوعه للغرب قد أدّيا إلى إثارة الزعماء المسلمين ونشوب ثورة 1958. لا تزال هذه النزعة تتفاقم على مرّ الحكومات المتعاقبة وحتى يومنا هذا.
كما أجرى الدكتور قرم في كتابه «مدخل إلى لبنان واللبنانيين»، تحليلاً معمّقاً للعوامل والظروف التي تؤدّي إلى الفساد ومدى ارتباطها بالتدخّل الخارجي في السياسات والإدارات المحلّية. يخلص المؤلّف إلى استنتاج مفاده أنه لا يمكن بلوغ الإصلاح الحقيقي في ظلّ استمرارية النظام الطائفي في لبنان. فهذا النظام يعكس مصالح القوى الأجنبية ونزواتها. لا يمكن النظر إلى الطوائف اللبنانية على أنها مجرّد قوى محلّية إذ أنها مرتبطة إلى حدّ كبير بقوى أجنبية، مثل علاقة الموارنة بفرنسا، والأرثوذكس بروسيا، والكاثوليك باليونان، والدروز بالنمسا، والشيعة بإيران، والسنّة بالمملكة السعودية ومصر في القرن الثامن عشر. قد تختلف القوى الأجنبية، إلا أن المبدأ يظلّ هو نفسه. لذا، «فالنظام الطائفي، مهما سعينا إلى إضفاء طابع حضاري ديمقراطي عليه، لا يمكن أن يؤسّس هوية للبنانيين... بل هو مجرّد آلية لتشجيع تدخّل الدول في الشؤون المحلّية...إن التوازنات الطائفية في لبنان وأهمية حصّة كل طائفة في إدارة الكيان ليست من صنع إرادة اللبنانيين، بل هي نتيجة لتوازن القوى الخارجية الفاعلة على الساحة اللبنانية، وأدواتها الطوائف اللبنانية.(6)
يؤكّد الدكتور جورج يعقوب في دراسة لم تنشر بعد حول معضلة الأمن في لبنان: قراءة استراتيجية لتاريخ لبنان السياسي، أن التنافس القائم بين الطوائف قد أدّى إلى التدخّل الخارجي، وهو يقدّم المعادلة أو الصيغة التالية: «تنافس داخلي دائم بين عدّة لاعبين, تجزئة السلطة السياسية بين زعماء سياسيين متنافسين على أساس طائفي, نظام وصاية سياسية مبرّر على أنه وسيلة للبقاء السياسي, نضال لهدف السيطرة على موارد الدولة من أجل تمويل نظام الوصاية أو استبقائه, استمرار زيادة الطلب على هذه الموارد والمقدّرات مقابل محدوديتها, الخوف من تحوّل قوة أو تحالف قوى إلى غالبية مسيطرة, إجراءات مضادة للمحافظة على التوازن, حركة تصاعدية لسلسلة من التحرّكات والتحرّكات المعاكسة, نزاع واللجوء إلى التدخّل الأجنبي».
لقد أثبت النظام مرونته وقدرته على الاستدامة والتكيّف إذ أنه قد يبدّل وجهه إبّان الثورات والأزمات الدولية الخطيرة ليكتسب المزيد من القوّة. لقد صمد هذا النظام في وجه التغيّرات المحلّية والدولية، من انهيار الإمبراطورية العثمانية إلى الحربين العالميتين، فالانتداب الفرنسي، وحرب العام 1967 وانهيار الاتحاد السوفياتي.
لبنان ما بعد الطائف
عقب توقيع اتفاق الطائف في العام 1989، ساد اتجاه عام قضى بوجوب إخراج البلد من الحرب الأهلية، واعتبار هذه الحرب «حرب الآخرين على الأراضي اللبنانية»، وتجاهل كلّ دعوة إلى البحث المعمّق لفهم أسباب الحرب وعواقبها وضرورة التخطيط للبنان جديد، ممّا دفع باللبنانيين مباشرة في مسيرة «الإنماء وإعادة الإعمار» من دون خطّة إنمائية واضحة وقبل إطلاق مسيرة «المصالحة الوطنية» الضرورية لفهم أسباب الحرب وبلورة رؤية مشتركة وواضحة عن لبنان. لم تلقَ الدعوات التي نادت بوجوب البحث بشكل معمّق في الأسباب أيّة آذان صاغية. أصبح أرباب الحرب بحقوقهم الموروثة هم الزعماء الشرعيون الإداريون والسياسيون في عهد الرئيس الهرواي.
ومثلما جرت العادة عند نهاية كلّ حقبة سياسية، انطلقت الشعارات الواعدة والمنادية بالإصلاح ومكافحة الفساد. تميل الطبقة السياسية الحاكمة دائماً إلى تحميل العهد السابق كامل المسؤولية، حتى ولو كانت هي نفسها قد شاركت فيه.
شهد عهد الرئيس الهراوي طريقة حكم عُرفت باسم «الترويكا»، إشارة إلى العلاقة الثلاثية التي جمعت بين رئيس الجمهورية الماروني ورئيس مجلس الوزراء السني ورئيس مجلس النواب الشيعي. أما النزاعات الناتجة عن التنافس على السلطة والموارد فكانت تُحلّ من خلال الرجوع إلى السوريين. لقد أعلن رئيس مجلس الوزراء رفيق الحريري وبعد أكثر من عشر سنوات من وجوده في الحكم، أن «الفساد» ومحاولات محاربته قديمة قدم النظام اللبناني نفسه، وأن سببه هو وقوع الإدارة في أسر الطبقة السياسية، وعجز أجهزة الرقابة عن ممارسة صلاحياتها رغم التدخّلات السياسية(7). على الرغم من الوعود التي قدّمها عهد الرئيس لحود، كانت الإنجازات الفعلية في مجال مكافحة «الفساد» ومعالجة الوضع ضئيلة جداً، كيدية حيناً وانتقائية دائماً.
تجدر الإشارة هنا إلى أن البيان الوزاري الذي ألقاه رياض الصلح في العام 1943 والذي تعهّد بموجبه بمحاربة «الفساد»، وتعزيز النزاهة والكفاءة، قد تكرّر في كافة البيانات الوزارية التي عقبته والتي كان آخرها بيان الرئيس فؤاد السنيورة في حزيران 2005. فكل رئيس جمهورية ورئيس مجلس وزراء اعتلى سدّة الحكم، من دون أيّ استثناء ومن غير جدوى، قدّم العهود بمحاربة «الفساد» وتحسين أداء الإدارة العامة، وتحرير لبنان من نظامه السياسي الطائفي.
حقبة ما بعد الانسحاب السوري
عقب الانسحاب السوري من لبنان، علت الدعوات المطالبة بالإصلاح، خاصة من قبل زعماء الطوائف الذين تمتّعوا بدور حيوي في الإدارات السابقة، وكانوا ميالين إلى استبقاء النظام إذ كان يخدم مصالحهم. ومن جديد توجّهت الأنظار بحثاً عن كبش فداء يُلقى عليه كامل اللوم. هذا ما حصل تماماً في العام 1920 عقب انهيار السلطنة العثمانية، إذ أن أبرز منتقدي ذلك العهد المضمحلّ ومعاديه كانوا تحديداً من تحالفوا معه واستفادوا منه، كما تفيد مارغريت ماكجيلفري في العام 1920 في كتابها The Dawn of a New Era in Syria (فجر جديد في سورية).
«ثمّة حاجة ملحّة اليوم إلى إعادة هيكلة شاملة للإدارة، وإقالة كافة المسؤولين والموظّفين الذين خدموا في ظلّ حكم الأتراك، والذين خوّلتهم الإدارة العسكرية الاحتفاظ بمناصبهم. فهم كلّهم، من دون استثناء يُذكر، «وصوليون» ومخادعون». إبّان عهد الأتراك، تعسّفوا واستغلّوا سلطتهم ونهبوا الشعب. اليوم، هم أنفسهم أو آخرون بعقلية مشابهة، يمسكون بزمام السلطة وتأتي ممارساتهم أسوة بتلك التي سادت إبّان الحكم العثماني. سورية بحاجة اليوم إلى تطهير سياسي، ويحقّ لها المطالبة بالعهد والسلطة في البلد إلى أشخاص أكفاء وليس إلى أسوأ أنواع «الزعماء» السياسيين(8) (والمقصود هنا سورية الكبرى التي كانت تضم سورية ولبنان وفلسطين).
في الحلقة الثالثة: نظام استنباط السبل والتدابير.
الخوري، ب.، 1961. حقائق لبنانية.
بيروت: منشورات أوراق لبنانية
الرياشي، إ.، 1953، «قبل وبعد».
لبنان: دار الحياة
قرم، ج.، 1996. «مدخل إلى لبنان واللبنانيين». لبنان: دار الجديد
قرم، ج.، 2004. «لبنان المعاصر تاريخ ومجتمع». لبنان: المكتبة الشرقية
Mc Gilvary, M., 1920.
The Dawn of a New Era in Syria. N.Y.: Fleming H. Revell Company
(1) الخوري، 1961، ص: 30
(2) الرياشي، 1953، ص: 77
(3) قرم، 2004، ص:77
(4) الرياشي، 1953،ص:148
(5) المصدر نفسه، ص: 144
(6) قرم، 1996، ص: 37
(7) ا لحريري، النهار، 20 تشرين الثاني،
1997، ص: 9
(8) ماكجيلفري، 1920، ص: 297-298
اترك تعليقا