الحالة اللبنانية: استبقاء النظام واستنزاف الموارد

أعد جواد عدرة هذه الدراسة عن الفساد بعنوان الحالة اللبنانية: استبقاء النظام واستنزاف الموارد وتنشر الشهرية هذه الدراسة على 6 حلقات

الحلقة الأولى:  أزمة الهوية ودور الزعماء

تعتبر مشكلة “الفساد” من أبرز القضايا والتحدّيات التي يواجهها لبنان في أيامنا الحالية. يرى بعض المراقبين أنّ الفساد ظاهرة جديدة، جاءت نتيجة للحرب الأهلية والنفوذ السوري، استبقتها الطبقة السياسية الفاسدة وغذّتها. نحاول في مقالتنا هذه تبيان أنّ ما تم تعريفه بـ”الفساد” إنّما هو نظام، أو حالة ذهنيّة تشكّل جزءاً لا يتجزّأ من السلوكيات الاجتماعية السائدة، نشأت (ربما) نتيجة لظروف قسريّة. كما أننا سنستعرض أسباب هذه الحالة وأعراضها وكلفتها بشكل عام، وذلك بغية تسليط الضوء على هذه الظاهرة.

تطوّر هذا السلوك نتيجة لنظام عشائري طائفي، يكون الشيخ أو الزعيم فيه أقوى من العشيرة، والعشيرة أقوى من الطائفة، والطائفة أقوى من الدولة. لقد حال هذا النظام دون بناء دولة عصريّة، إذ أنّه يرتكز على التقاليد وسلطة الزعماء والأعيان يقومون بدور الوسطاء بين الشعب والحكومة. يعمد اللاعبون الأساسيون في هذا النظام، في ظلّ غياب الدولة أو السلطة المركزية القوية، إلى حياكة التحالفات مع القوى الأجنبية بغية تحقيق مصالحهم الخاصة، مشرّعين بذلك الأبواب أمام التدخّل الأجنبي، ممّا يؤدي إلى تفاقم الوضع وزيادة العقبات الحائلة دون قيام الدولة. نحاول في مقالتنا أيضاً إظهار أن النظام اللبناني هو نظام مرن ومستدام، قادر على التكيّف والمقاومة، باهظ الكلفة، إن على المستوى المالي أو البيئي أو البشري. لذا، فكلّ دعوة إلى الإصلاح والحكم الصالح، سواء جاءت من قبل منظمة الأمم المتحدة أو البنك الدولي أو القوى الخارجية الأخرى وكذلك الداخلية، تصبح مجرّد كلمات رنّانة ما لم تقترن بمقاربة تصاعدية، تنطلق من القاعدة، وتتناول الأسباب الحقيقيّة التي أدّت إلى نشأة هذه الظاهرة وضمنت استمراريتها.    

 

لا بدّ من لمحة تاريخية من أجل فهم آليات النظام اللبناني وإثبات أن الفساد ليس عنصراً غريباً عن هذا النظام، إنما هو مكوّن جوهري، يدخل في صلب تركيبة النظام نفسها. وما يصحّ بالنسبة إلى لبنان ينطبق على المنطقة جملة إذ أنها شكّلت المسرح المشترك للأحداث السياسية نفسها، بدءاً بالحكم العثماني، مروراً بتنفيذ اتفاقية سايكس بيكو، ووصولاً إلى وعد بلفور. يصف ويليام م. تومسون مجتمع هذه المنطقة في كتابه The Land and the Book (الأرض والكتاب)* بقوله:

“تتعايش مختلف الأديان والطوائف، وتمارس معتقداتها المتضاربة جنباً إلى جنب؛ إلاّ أنّ الشعب ليس موحّداً ضمن مجتمع متجانس، ولا تربط بين أفراده مشاعر الأخوة. أعتقد أنّه ما من بلد آخر في العالم يحوي هذا القدر من الشِيَع المتناقضة... لا يمكنهم قط تشكيل شعب موحّد، أو ضمّ جهودهم لتحقيق أيّة غاية دينية أو سياسية، فمصيرهم هو إذن الضعف والعجز عن الحكم الذاتي والبقاء عرضة لغزوات القوى الأجنبية والقمع. هكذا كانوا في الماضي، وهكذا هم اليوم، وسيبقون على هذه الحال – شعب منقسم، مشرذم ومقموع” (1)    

 

لا شكّ أنّ تومسون محقّ بشكل عام في وصفه للانقسامات القائمة بين مختلف مجتمعات المنطقة، بما في ذلك لبنان. ثمّة مجموعات منقسمة مختلفة كرّست نفسها على أسس طائفيّة قبيل قيام دولة لبنان الحديث، واستمرّت على هذا النحو حتّى بعد إنشاء دولة لبنان الكبير في العام 1920، ممّا أدّى إلى بروز أزمة هوية مزمنة. إن السلطة السياسية التي يتمتّع بها رجال الدين والمؤسسات الدينية، وتحكّمهم بالشؤون المدنية، ورفضهم لصدور قانون مدني، كلّها عوامل ساهمت في شحن الأزمة واستفحالها من خلال تغذيتها النظام الطائفي، وتعزيز نفوذه وسيطرته لتشمل مختلف أوجه حياة اللبنانيين الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. لقد كشفت نتائج استطلاع الرأي الذي أجرته “الدولية للمعلومات” لمصلحة مركز الديمقراطية وحكم القانون في آب 2005 أنّ 34% من المستطلعين قد أجابوا أن انتماءهم الأول هو إلى وطنهم لبنان، في حين أجاب 37.3% أنهم ينتمون أولاً إلى طائفتهم، وتساوى الانتماء إلى لبنان والطائفة لدى 22.3% من العينة. لكن، وعند سؤالهم عن أولوية انتمائهم في حال حصول تضارب بين المصلحة الوطنية والمصلحة الطائفية، انخفضت نسبة المواطنين الذين ينتمون إلى لبنان أولاً إلى 27.2%، كما انخفضت نسبة الذين أجابوا بالانتماء إلى لبنان والطائفة بصورة متساوية إلى 17.6%. في المقابل، ارتفعت نسبة الانتماء إلى الطائفة أولاً لتصبح 48.8%(2). فالمشكلة إذاً هي في الانتماء وفي تكوين السلطة ورموزها وأدواتها.

 

* تجدر الإشارة إلى أنّ أوروبا كانت تشهد خلال هذه الفترة مشاكل طائفيّة مماثلة، مثل التمييز الذي كان ممارساً ضد اليهود، في حين أنّ هؤلاء كانوا يعتبرون جزءاً لا يتجزّأ من منطقة الأراضي المقدّسة. لا يأتي تومسون على ذكر دور العوامل الخارجية.

(1) تومسون، 1858، ص.: 168-169

Thomson, W.M., 1858 The land and the Book New York: Harper & Brothers

(2)        استطلاع الدولية للمعلومات الذي أجري في آب 2005 لمصلحة مركز الديمقراطية وحكم القانون

في العدد القادم الحلقة الثانية: التدخل الخارجي ولبنان قبل وبعد الطائف

اترك تعليقا