عشائر الماركنتيلية وعشائر الإصلاح (2/5)

تحكمت ايدولوجية واحدة بالعلاقات بيـ»ننا« وبينـ»هم«، ايدولوجية العشيرة، حيث تكون مصلحة العشيرة أو شيخها، أو ما يتراءى انها »المصلحة« هي المتحكمة بالمواقف، ايدولوجية الذي يسعى إلى الربح بأي ثمن. وهكذا ورغم انتهاء الفكر الماركنتيلي في القرن الثامن عشر مع ظهور آدم سميث وما بدا شرعنة لنهايته وفق اتفاقية الـ GATT في 1947، فإنه لا يزال فاعلاً وخصوصاً في العلاقة مع منطقتنا وربما العالم أجمع. وكذلك ورغم محاولة الكيانات (كل الكيانات) التي تسمي نفسها اليوم أوطاناً الظهور بمظاهر الدولة الحديثة، فإن العشائرية أو منطق العشيرة لا يزال هو السائد فيها ومنه تكتسب علّة وجودها. وكأن زعماء القبائل عند»نا« هم واحد مع زعماء-عشائر السياسة والاقتصاد القوميين عند»هم«. الفارق أن عشيرتهم قد تتسع لتحوي الشركات الكبرى حيناً والوطن احياناً، بينما تنكمش عندنا دائماً على قياس الحاكم المتزعم.

ويقول أمين معلوف في كتابه »الحروب الصليبية كما رآها العرب«: ».. وقد بلغ التفكك السياسي حداً أصبحت معه أصغر البلدان تتصرف وكأنها إمارة مستقلة.... وعليه فقد ترك الناس دوافعهم الوطنية جانباً وجاؤا يقدمون الهدايا وآيات الإجلال وكل شفاههم بسمات مغتصبة. يقول المثل »اليد التي لا تستطيع كسرها قبلها وادع عليها بالكسر« «. وهكذا تم الاتفاق، بل الحلف الجهنمي، على إدارة شؤون منطقتنا (أو سوء إدارتها) بين متسلقي السلطة »هنا«، والطامعين بالثروة والسيطرة »هناك«، إلى أن آلت الأحوال إلى ما »نحن« عليه. فهذ الحلف أو التبعية يفترضان اهمال مصالح الشعوب في المنطقين والتعامل مع من وما هو أشد سوءاً فيهما. فتسقط كل محاولات الإصلاح منذ محمد علي ومفكري النهضة العربية، كما تسقط مبادئ الثورة الفرنسية والماغناكارتا والدستور الأميركي ليأتيك الطامع من »هناك« حاكماً على الطامع من »هنا« متسلطاً متزعماً.

ولقد تنبأت مارغريت ماغيلفاري (سكرتيرة الصليب الأحمر- قسم بيروت) أبان الحرب العالمية الأولى في كتابها »شروق عصر جديد في سوريا׫ عما سيحدث، إذ كتبت: »سوريا موحدة هي المطلب .. إن أي إشاعة ]أو فِعل[ حول قيام دولة مستقلة في فلسطين وفي الشمال دولة (لبنان مكبراً) ستؤدي إلى هجرة أفضل الناس ... وستسبب الكثير من الاضطرابات...«. وتأكيداً لنظرية التفاهم بين الماركانتيليين »هناك« وعشائريي الأنا »هنا«، تتابع السيدة ماغيلفاري لتقول »ولا يجوز أن يستمر بالسلطة [أولئك الذين كانوا أيام العثمانيين] لأنهم »مخادعون« و»نصابون«... إن سوريا تراهن على الولايات المتحدة ومبادىء ويلسون الأربعة عشر وهي جديرة بالمعاملة ]الجيدة...[«.

واقع الأمر أن »الغرب«، لم يلتزم بوعد ولم يأسف على ما فعل. وواقع الأمر أن الأناني والعشائري فينا أذل شعبه فنال رضا هذا الغرب وتأييده واحتقاره الكامل، معطياً الولاء الكاذب، هادراً مقدرات المنطقة، مكَبلاً كشاهد زور على نشوء وتوسع دولة »إسرائيل«، مهملاً تنمية المنطقة، ومعيثاً فساداً فيها. واحتفلت مراكز القوى »هناك« بهذا الخضوع، هادرة مقدرات الأرض، معرضة شعبها للأخطار، هنيئة بسقوط الاتحاد السوفياتي وباحثة عن عدو جديد. واستمرت المعادلة طويلاً، إلى أن اختلت، فجاء الغرب يؤسس لمعادلة قديمة جديدة تحت شعار الإصلاح.

وكما مرر »الغرب« خططه تحت شعار الخلاص من نير العثمانيين وتحت راية »الثورة العربية الكبرى«، ها هو مرة أخرى يخطط لمصير جديد لنا تحت شعار »الإصلاح«. وفي وقت تمثل عملية الإصلاح أهم عمل وطني يُضطلع به، نرى الأنظمة عاجزة عنه، ومعظم الداعين له ومدعيه فاقدين الجذور والشرعية للقيام به. وهكذا تأتيك »عشائر الأنا« (من داخل الأنظمة ومن الخارجين عليها)، هذه المرة بثوب الاصلاح، مرتديةً حلّة جديدة تذكرك ببدو لورنس العرب وتنبؤك بمصير أسود.

ويبقى السؤال الملح، هل الاصلاح ممكن في بلادنا؟ والجواب حكماً نعم. لكن هل هو ممكن، دون اصلاح متجاوب في الغرب؟ قبل الاجابة على هذين السؤالين لنحدد مكامن الخطأ فينا(حلقة 3/5) ثم مكامن الخطأ في سياسات الغرب (حلقة 4/5) ثم التوقعات المستقبلية (حلقة 5/5).

× كانت سوريا آنذاك تشتمل على لبنان، فلسطين والأردن
يتبع في العدد القادم

جواد نديم عدره

اترك تعليقا