عظمة لبنان

اكتشف مؤخراً عظمة لبنان، واكتشف أنها ليست فيما تعلمه وسمعه. فمنذ الصغر وهو يسمع عن «عظمة» لبنان، وعن أرزه المغروس في التاريخ، وعن السباحة على شاطئه والتزلج على جباله، وعن مدنه الأثرية. وكان إذا يردد هذه الكلمات للآخرين يسمع نفسه يتساءل عن دواعي الفخر بأمور لم يساهم هو ولا جيله ولا حتى أجيال أجداده في صنعها. أنغالي بما وهبته الطبيعة وفشلنا بالمحافظة عليه؟ أنباهي بمدن أثرية (المدينة-الدولة) ساهمنا بتدميرها ولم نحفظها؟

ثم عاد ليسمع ويقرأ عن «إنجازات حكومات الإنماء والأعمار»، وعن «نجاحات» القطاع المصرفي، وعن شركة سوليدير، وشركات الإسمنت ووكلاء السيارات ورجال الدين والسياسة الذين تمتلئ صفحات الأخبار والجرائد بهم، وسمع نفسه يتساءل أية إنجازات؟ وأي قطاع خاص؟ وأي دين؟ وأية سياسة؟

نمنع استيراد الإسمنت ونبيع الإنتاج المحلي بنحو %30 أعلى من السعر المتداول عالمياً (900 مليون دولار كلفة إضافية على المستهلك في عشر سنوات) ونعلن خسائر سنوية تجنباً لدفع الضريبة متفاخرين «بالصناعة الوطنية» المدمرة لبيئة الوطن. نحتكر الوكالات، أدوية وغذاء وسيارات وغيرها، ولا نقدم الخدمة المطلوبة ولا نعلن عن أخطاء التصنيع وفساد المنتج ونفاخر «باللبناني التاجر الشاطر».

نتحالف مع طبقة سياسية فاسدة، فنوفر لها التمويل وتوفر لنا الحماية، منتجين ديناً يناهز 33 مليار دولار تشكل الفوائد منه .%70 نسمع رجال دين يتدخلون بالسياسة ورجال سياسية يستغلون الدين ويستحوذون على نحو %35 من نشرات الأخبار والصحف. أية عظمة هذه؟
وعاد يسمع نفسه يقول إن «لبنان عظيم» ...

عظمته في تحمله كل هذا الرطن والهدر، مستمراً، وإن معاناة.
عظمته في القاضي عبد الباسط غندور والمهندس ابراهيم عبد العال وحسن شلق (موظفاً ورئيساً لمجلس الخدمة المدنية قبل أن يكون وزيراً) و...و... والعشرات بل المئات من العاملين في القطاع العام الباذلين جهداً ونزاهة، وهم يُظلمون.
عظمته في محل دراجات ابو عبد العيتاني مقابل حديقة الصنائع (الرئيس معوض) يعمل منذ 1934.
عظمته في الأم التي تأخذ طلب منقوشة الزعتر على الهاتف الجوال وهي تعجن الفطيرة.
عظمته في مطعم مروش وسباغتاريا يعملان قبل الحرب وخلالها وبعدها دون بهرجة وادعاء وغيرهما من عشرات بل مئات المؤسسات في الصناعة والزراعة والمقاولات والهندسة والسياحة.
عظمته في مطعم أبو غسان الذي يعطيك «صيد اليوم» كما اصطاده الأبناء وحضرته الوالدة وبناتها.
عظمته في زكية السمروط التي تفلح الأرض العفراء مع زوجها وأولادها فيبنون عائلة ومنازلاً.
عظمته في أستاذ يتابع طلابه في منازلهم ليلاً ليتأكد أنهم يدرسون، وذلك قبل أن يتحول موظفاً لا يعمل في مؤسسة عامة.
عظمته في يوسف «الكندرجي»، ابن السبعون عاماً، متجولاً مع حقيبته الخشبية في منطقة المتن.
عظمته في علي الرمال، يبيعك الصحيفة اليومية منذ 46 عاماً، ولم يغب يوماً.
عظمته في كل هذه الأمور الصغيرة جداً والأشخاص المتواضعين جداً والذين لا تحفل بهم وسائل الإعلام، العاجزة عن تمويل نفسها ذاتياً. ثم استنتج ان البلاد تصنع وكذلك طريقة الحياة.
ولبنان وبلادنا كلها هي نتاج كل هذه الصناعة، وهؤلاء الصنّاعون-الصانعون.

هذه الأشياء الصغيرة، هذه القيم الكبيرة، هذه المؤسسات والناس الصغار-الكبار هم العظماء وجميع العاملين مثلهم صناعةً وفكراً وغلالاً وفناً وإدارةً وقضاءً ً. لذا نرى لبنان عظيماً. وكما لبنان كذلك عالمنا العربي.

جواد نديم عدره
 

اترك تعليقا