السر
احتار علماء الانتربولوجيا والسياسة والاقتصاد في فهم سلوك اللبنانيين إلى أن اكتشف أحدهم، وبشكل مفاجئ، الأسباب الكامنة وراء ما تراءى لزملائه أنه سلوك مستغرب يتراوح بين الفرح والقلق، فرح لمكاسب حُققتْ وقلق من أن تُفقد.. فلقد أفاقت "الشعوب اللبنانية" من سبات عميق لتجد أن الكهرباء بأحسن أحوالها والكلفة ضمن المعقول وأن الطرقات ممتازة والسير منظم والمواقف متوفرة والنقل العام منظم ومياه الشفة تصل إلى البيوت والمياه الآسنة يتم تكريرها وكذلك إعادة تدوير النفايات.
صحيح أنه تم صرف أكثر من 11 مليار دولار منذ العام 1993 على الكهرباء، و2 مليار دولار لجمع النفايات و615 مليون دولار للمياه، ولتأهيل الطرقات 1.8 مليار دولار لكن النتيجة لم تخيب الآمال.
فها هي الجامعة اللبنانية والتعليم الرسمي بحالة ممتازة رغم صرف مبلغ 940 مليون دولار "لتأهيل وإنشاء المدارس" والجامعة وإنفاق 1 مليار دولار سنوياً كرواتب للمعلمين ومنح مدرسية. فلا ضرورة لإرسال الأولاد إلى المدارس الخاصة بعد اليوم. وها هي فاتورة الاستشفاء التي تتحملها الدولة البالغة قيمتها نحو 750 مليون دولار سنوياً تُسدد بواسطة الضريبة على الأرباح العقارية والفوائد. فالسكن أصبح معقولاً ومتوفراً، والهجرة تباطأت وأصبح السياسيون يعلنون أمام ناخبيهم حساباتهم وحسابات عائلاتهم في المصارف. وامتنعوا جميعاً عن ممارسة "الأعمال الخاصة" خلال توليهم مسؤولياتهم، مما خفض نسبة الفساد في الإدارات العامة التي أصبحت تنافس السويد بالدقة والسرعة والنزاهة.
وها هم المغتربون بدأوا بالعودة. ولقد أثمر الاهتمام بالبيئة فالبحر والجو نظيفان والجبال خضراء فلا مقالع ولا كسارات تردم الأنهر وتحول الجبال سهولاً.
ولقد انخفضت نسبة المصابين بالأمراض المستعصية وكذلك نسبة متعاطي المسكنات والمدمنين. فحتى في النوادي الليلية اعتمدوا الموسيقى المحببة التي لا تؤذي السمع. وأصبح اللبنانيون يتكلمون مع بعضهم باحترام وهدوء فالابتسامة على شفاه الجميع والسعادة تعم. ولقد اكتشف الناس أن هناك أموراً أهم من تدخين النارجيلة في شارع المعرض أو تمضية نهار في الـ ABC الخانق في مكانه. فها هي العائلات تمضي وقتاً ممتعاً في الحدائق العامة المنتشرة في المدن وها هي القرى عادت إلى سابق عهدها فلها ساحة وحرج وعين وساقيه. وها هي المكتبات العامة تعج بشعب نهم يقرأ ولا يمل. وإذا بالمحطات التلفزيونية تغير برامجها فلا جدل سياسياً عقيماً ولا طقاطيق اسمها موسيقى بل كوميديا وتراجيديا وأفلام وثائقية ومواضيع مهمة تحسدنا عليها، لا الجزيرة فقط، بل حتى الـ BBC.
وجاءت الانتخابات النيابية لتشهد انخفاضاً في عدد المرشحين بحيث أن بعض المقاعد بقيت شاغرة لان الجميع "نأى" بنفسه عن تحمل مسؤوليات جسام، أو أراد التفرغ لعمل آخر يحبه. وكأن لبنان جنة الله على الأرض. لكن "الشعوب اللبنانية"، ورغم ضجة فرحها الصاخبة من هذه الانجازات، بدت للعلماء قلقة وغير مطمئنة لاستمرار هذه "النِعم" ولذا اشتدّت حيرة العلماء إلى أن قال زميلهم "وجدتها"، فالأسباب تكمن في مسائل تستحوذ على اهتمام السياسيين وأتباعهم الذين برعوا بتنفيذ كل أمنيات "الشعوب اللبنانية"، ولم يتبق إلا أربع وهي:
1- تمديد بروتوكول المحكمة الدولية
2- نزع سلاح حزب الله
3- ملف شهود الزور
4- إسقاط النظام السوري
وهكذا فهم العلماء السر الغريب وراء تنقل الناس بين الفرح والقلق وغرابة تصرف اللبنانيين وزعمائهم، فرددوا جميعاً: الآن فهمنا.
جواد نديم عدره
اترك تعليقا