ابن الجنرال وأولياء المحاور

لم يكن الجنرال ماتياهو بالاد Mattityahu Peled، المدعو تحبّباً "ماتي"، ناشطاً في الهلال أو الصليب الأحمر، فالصهيوني الذي ولد في حيفا في العام1923، بعد أن جاء والده من بيلاروسيا، آمن بأنّ فلسطين هي أرض الميعاد وقاتل، بل قتل، في الهاغانا قبل أن يغادرها. وعبر مسيرةٍ طويلة، بدءاً من العنف المجنون في الهاغانا إلى العنف الممنهج في الجيش الإسرائيلي في الأعوام 1956 و1967 و1973، تحوّل الجنرال إلى داعية سلام فتصالح مع "الذات" و"الآخر" عبر دعوته "لحلّ" الدولتين في استفاقة تدعو للإعجاب.

ودرس الجنرال اللّغة العربية ثم درّسها في جامعة تل أبيب. تحدّرت زوجته من عائلة صهيونيّة من جورجيا، وكان والدها من موقّعي بيان نشوء دولة اسرائيل وأوّل سفير للدولة الجديدة في النروج. هكذا جاء ابن هذا الجنرال، ميكو Miko، ليروي قصة عائلته مع الحرب والسلام ويدعو إلى دولة واحدة ديموقراطية في فلسطين التاريخية، معتقداً أنّ والده كان ليرضى عن هذه الدعوة لو كان حيّا اليوم، وذلك في كتاب عنوانه "ابن الجنرال".

يختم ميكو بالاد كتابه بالعبارة التالية: "أعلم أنّ أمّي قالت لي في مناسباتٍ عدّة إنّ الصهيونية قد فشلت، وما من سببٍ يثنينا عن العيش سويّاً كمواطنين متساوين في دولةٍ ديموقراطية."

طبعاً نحن لا نقرأ في صحافتنا ولا نرى أو نسمع في قنواتنا عن هؤلاء الأفراد من "أبناء العدو" وكيف عملوا على تجاوز عصبياتهم وتجرأوا على دحض عقيدتهم التي حاربوا من أجلها وبذلوا التضحيات.

تُرى أيّ ثمن يدفعون؟ يا للعقل والضمير والقلب! يا للروح التي تنقلك من الكراهية إلى الحب ومن القتل إلى السلم والتسامح. ما هو سرّ ابن الجنرال؟ الجواب، وإن بدا كلاسيكياً ومملاً، هو الأخلاق. لقد كان محتّماً على ميكو أن يختبر هذا التحول فقد اختار قدره حين وُلد ونشأ في أحضان والدة كانت تعيد على مسمعه الآتي:

".. لقد سنحت لي فرصة التعرّف على عائلات فلسطينية نتيجة ترعرعي في مدينة القدس. كنت أجوب الأحياء أيام السبت فأشاهد العائلات جالسة على الشرفات وقد جرت العادة أن يكون هنالك شجرة ليمون في الواجهة وحديقة مزروعة بأشجار الفاكهة في الخلف."

لقد رفضت زوجة الجنرال الاستيلاء على منزل عائلة أخرى، وهي تقول: "كيف يعقل لي أن أعيش في منزل عائلة قد تكون اليوم في مخيّم للاجئين؟ كيف يعقل أن أسكن منزل أمٍّ أخرى؟ هل تستطيع أن تتخيّل مدى شوقهم إلى منزلهم؟ كنت أرى الإسرائيليين يفرّون محمّلين بالغنائم والسجّادات الجميلة والأثاث، فيعتريني شعورٌ بالعار. كيف تسوّل لهم أنفسهم فعل ذلك؟"

ويروي الكاتب أنّ الحادثة التي أودت بحياة ابنة أخته، سمادار، البالغة من العمر 13 عاماً، إثر تفجير قام به فلسطينيان في 4 أيلول من العام 1997، شكّلت الشرارة الأولى في رحلته لفهم الفلسطينيين. فبدلاً من الدعوة إلى الثأر، تحوّل ميكو من مظليٍّ في الجيش الاسرائيلي إلى داعيةٍ للسلام. وبعد هجرته إلى كاليفورنيا، روى من هناك مشاعر الألم والحزن التي ألمّت به لدى سماعه بمقتل عبير (10 سنوات)، ابنة صديقه الفلسطيني، بسّام عرامين، على يد جنود اسرائيليين في 16 كانون الثاني 2007 قائلاً: "كنت غارقاً في بحرٍ من العواطف فلم أقوَ على أيّ قولٍ أو فعل. ووجدت أنّ المحيطات تسلخني مجدداً عمّن أحب في أمسّ حاجتي لأن أكون قربهم."

لقد لخّص كتاب ابن الجنرال مسألة فلسطين بمنتهى البلاغة. لننسَ العقائد والقوميات والطوائف لحظة ولنسأل عن المرجعية المناقبية؟

نعم، ولنسأل المهرولين للحرب الأهلية في 8 و14 آذار: هل يعقل ما نراه؟ قادة محاور؟ أي قادة وأية محاور؟ نعرفهم من أسمائهم ومن سجلاتهم العدلية ومن حساباتهم المصرفية. أولياء دم؟ أي أولياء وأية دماء؟ نعرفهم في الحرب الأهلية وما ارتكبوا سواء كانوا مخبرين لدى ياسر عرفات أو لدى المخابرات السورية. رؤساء، وزراء، نواب؟ نعرفهم وهم يعرفون أننا نعرفهم.

تفضّلوا واقرأوا كتاب ابن الجنرال واسألوا ذواتكم هل ما بينكم يا 8 و14 ويا بعل محسن (أولياء الدم) والتبانة (قادة المحاور)أكثر مما كان بين الهاغانا وعبد القادر الحسيني*؟

كتاب "ابن الجنرال" كتاب جديرٌ بالقراءة فهو يقول لنا ببساطة إن المسألة في العالم أجمع وفي عالمنا العربي وفي لبنان بالتحديد تتمحور حول سلّم القيم. إمّا أن نكون على خلقٍ عظيمٍ أو لا نكون.

* قائد فلسطيني استشهد عام 1948 بعد أن قاد معركة ضد العصابات الصهيونية

جواد نديم عدره

اترك تعليقا