بين ملايين فخر الدين وملايين آل مديشي
تكتسب توسكانا أهمية بالنسبة لنا في لبنان، لا لأنها مهّدت وشهدت عصر النهضة في أوروبا فحسب، بل لأننا درسنا أن فخر الدين المعني الكبير الثاني لجأ إليها وجاء بطرازها المعماري إلى لبنان.
ولا يزال البحّاثة يدرسون حتى اليوم أصل الاتروسكين Etruscans الذين سكنوا قبل الميلاد بين نهر أرنو (ARNO) ونهر التيبر (Tiber) في منطقة سمّيت تيمّنًا بهم توسكانا.
يقول هيرودتس إنهم جاؤوا من بلادنا، شمال سوريا (أو تركيا اليوم)، ويبدو أن فحوصات الـ DNA التي نشرت في العام 2007 تؤكد صحّة ذلك. وتزداد القناعة حين يطّلع المرء على نحوتاتهم وأعمالهم الفنية العائدة لتلك الحقبة. ولكن ربّما لم يأتوا من أي مكان، فكانوا السكان الأصليين لتلك المنطقة والتي أصبحت فلورنس (Firenze) عاصمتها.
فخر الدين، شأنه شأن بعض زعماء اليوم، حاول استجلاب دول الخارج، فاستنجد بتوسكانا لغزو هذه المنطقة و«تحريرها» من العثمانيين، ولجأ هناك نحو خمس سنوات حيث أودع في مصرف جبل الرحمة Monte Di Pietà مبلغاً قد يوازي المليارات من الدولارات بأسعار اليوم. فخر الدين ظنّ أنّ ماله سيخلّده فهرّبه الى توسكانا التي بطريقة أو بأخرى، صادرته.
لم يُعرف آل مديشي، MEDICI، الذين حكموا فلورنس (1434-1737) بعدلهم ولا بديمقراطيتهم ولا حنوهم على الفقراء، لكنّهم تركوا إرثاً ثقافياً وفنياً خلّدهم وخلّد توسكانا.
طبعاً لا يعود الفضل كاملاً لآل مديشي، فهناك في توسكانا كان دانتي (1265-1321) الذي وضع حجر الأساس للغة الايطالية فأطلقها لغة للناس، بعد أن كانت اللاتينية لغة النخبة. ثم فرنسيسكو بيتراركا (Francesco Petrarca (1304-1374 الذي أعاد اكتشاف رسائل سيسروا CICERO والذي ترك الرهبنة وأحب لورا فكتب لها أشعاراً تناقلتها أوروبا. ومن هذه البلاد (بلادنا) التعيسة اليوم، انتقلت مفاهيم عدة في العلوم والفنون مع الفرنج (الصليبيين)، والتي لعلها ساهمت بتأسيس مدرسة الانسان أو الانسانية أو الواقعية (Humansim). وفي تلك المنطقة، «ايطاليا اليوم»، شهد الناس عظمة روما وسطوتها وديمقراطيتها وكذلك الجمهوريات التي نشأت في المدينة-الدولة.
إن مدرسة الانسان والواقع (Humanism)، التي كان بيتراركا في فلورنسا من روّادها والتي عادت إلى التّراث اللا ديني وغير التوتاليتاري الذي حاولت الكنيسة محوه، زرعت بذور حركة النهضة في فلورنس. وجاء مرض الطاعون ومن بعده عوامل ديمغرافية وتجارية أخرى ليفتح آفاقاً اقتصادية واجتماعية وإنسانية وفّرت لآل مديشي البيئة الحاضنة.
ولكن آل مديشي امتلكوا شيئاً يبدو أن أغنياء وزعماء لبنان، بدءاً بفخر الدين، يفتقدونه. أخذ فخر الدين أموال مواطنيه (من لبنان وسوريا وفلسطين اليوم) وهرب بها الى فلورنس ولم يستطع أحفاده استرجاعها وعلى هذه الطريق يسير أغنياء لبنان. تحول هذا الرجل رمزاً، ولكن ما هو إرثه؟ لقد احتضن آل مديشي الفن والعلم والعمارة، فماذا احتضن فخر الدين وأغنياء وزعماء لبنان؟
على الرغم من حلفهم مع البابا، لقد وفّر آل مديشي لغاليليو (Galileo (1642-1564 ملجأً حين أغضب الكنيسة. وهناك أبدع مايكل أنجلو وبوتشيلي وليوناردو دافينشي وفيليبو (برونليسكي) برواديستشي (Philippo Bruenelleschi (1446-1377 الذي بنى قبة كاتدرائية سانتا ماريا ديلفيور، فأطلق فناً وعلماً عمرانياً استعاد عظمة روما، فماذا أطلق فخر الدين وبِمَ استثمر أغنياء وزعماء لبنان؟
آل مديشي يشبهون في بداياتهم بعض مصرفيي وسياسيي لبنان فهم من عائلة متواضعة نسبياً وعملهم كان في المال والتجارة. كانوا مصرفيين وقرروا دخول المعترك السياسي، فابتاعوا الضمائر ولعبوا لعبة السلطة، وقَتلوا وقُتِلوا وتحالفوا مع الكنيسة واستحضروا مريم العذراء والمسيح لنجدتهم وجمعوا من الأموال أطناناً. لكنهم ساهموا بإطلاق عصر النهضة في أوروبا فأسسوا مكتبة مميزة LAURENIAN LIBRARY خططها مايكل انجلو وضمّت آلاف المخطوطات. واستثمروا بالعلم والفن نحتاً ورسماً وموسيقى. فماذا خطط فخر الدين وأغنياء وزعماء لبنان؟
لم يبقَ وريث لآل مديشي، لكنّ الموناليزا وتمثال دافيد وقبة ALDUOMO وحدائق منازل آل مديشي خير دليل على أنهم ما زالوا أحياء. احتسب لورنزو في العام 1471، أنّ عائلته قد صرفت منذ العام 1434 نحو 460 مليون دولار (بأسعار اليوم) على الأعمال الخيرية والمباني والضرائب وقال: «أنا لست نادمًا على ذلك، فعلى الرغم من أنّ الكثيرين يظنّون أنّه كان من الأجدى ادّخار جزء من هذا المبلغ، إلا أنّ ما فعلناه، باعتقادي، كان شرفًا عظيمًا للدولة وأعتقد أنّ الأموال قد أنفقت كما ينبغي وأنا جدّ راضٍ عن ذلك.»
أودع فخر الدين في مصرف جبل الرحمة Monte Di Pietà، في العام 1616، أموالاً بلغت قيمتها ما يساوي 111 مليون دولار بسعر اليوم، وقد طالب حفيده الامير حيدر بـما يعادل 655 مليون دولار بعد مائة عام، بعد احتساب الفوائد لهذه الأموال. صادر المصرف هذه الأموال وقال لورثة فخر الدين إنّ هناك دين على الأمير ولا تنسوا أننا استضفنا أميركم خمس سنوات!
إذاً، 450 مليون دولار دفعتها عائلة ماديشي كضريبة ومساعدات ومشاريع لتعزيز سلطتها وإطلاق النهضة. كيف ينفق زعماء وأغنياء لبنان الأموال التي تسلب من هذا البلد؟
هناك اكتشف فخر الدين أن هناك مالاً للسلطان ومالاً للدولة إذ يقول أحمد الخالدي الصفدي الذي عاصر فخر الدين وروى مجريات الأمور معه:
ومن البذور والطحين... «ياخدوا طحنوا ياخدو المعتاد للسلطان والمعتاد للمدينة لأن المدينة لها مال وحدها ومهما إنباع من غلة الاشجار مثل نبيذ أو غيره ياخدو عليه، ومال المدينة له كتاب وحساب تضبطه وحده، وهذا المال ينصرف على الصور والدروب وجسور ...»
وهناك اكتشف فخر الدين أن الجسور والطرق تصان:
«واما طرق بلادهم فمنظمة .. ولجميع الطرق ناس لإصلاحها...»
وهناك اكتشف فخر الدين أن الضمان الصحي متوفر للمواطنين:
«.. وفي مدينة فرنسيا وغيرها بيمارستانات (مستشفيات وعيادات) لأجل الضعفاء يلاقي الحكما موجوده جميع ما يحتاج الضعيف ولو كان أقل الناس... وما يحط الضعيف درهم..»
وهناك لم يمانع فخر الدين من أن يستلم الأموال من الدوق رغم توفر الكثير معه: «وأنه تعيّن لهم (فخر الدين وعائلته) خرج جزيل...»
وهنا لا يستطيع الباحث إلا أن يلاحظ تلك العلاقة بين العبقري أو المثقف وبين الحاكم من آل مديشي. فهؤلاء الطغاة حضنوا، بكل معنى الكلمة، مايكل انجلو عندما كان صغير السن ولم يمنعهم تمرده وتذمره منهم، بل وتعاطفه مع الثائرين ضدهم، من الاعتراف بعبقريته والاستفادة منها وتوظيفها لصالحهم كسلطة.
والأمر سيّان مع ماكيافيلي الذي سجنوه والذي كان دائماً ثائراً عليهم، والقصة ذاتها مع الغير من هؤلاء الأفراد المميزين والذين لولاهم لكان آل مديشي مجرّد متسلطين أغنياء، تماماً كأغنياء لبنان اليوم.
ولعلّ فخرالدين بعد زيارته فلورنس، وقبل أن أعدمه السلطان العثماني مع ابنه، تنبّه إلى أمور لا يزال زعماء لبنان وأغنياؤه يتجاهلونها. لقد بنى قصرًا جميلاً لا يزال ماثلاً في دير القمر وقصرًا آخر في ساحة البرج هُدم من قبل الأجنبي مما وفّر على سوليدير هدم مَعْلم آخر مهم. لعله فعلاً زرع صنوبر بيروت، ولعلّه تنبّه إلى أن هنالك مالاً عامًا لا يحق للسلطان مسّه وأن الطرق تصان وأن هناك حيّزًا عامًا لعامّة الناس وأنّ للدولة موازنة وأن الطب المجاني حق للمريض الفقير. عاجل الأجنبي فخر الدين فقُضِي عليه قبل أن ينفّذ هذه الإصلاحات ولعلّ الأجنبي قد يستعجل أغنياء لبنان وزعماءه فيقضون أمرًا قبل أن يقضوا.
ولعلّ فخر الدين لو تسنّى له أن يقول شيئا لزعماء لبنان وأغنيائه لقال: «لا الحلف مع الأجنبي نفعني ولا ملاييني. يكفي ما عملتموه، ابنوا بلدًا أو ارحلوا.»
جـــواد نديــم عـــــدره
اترك تعليقا