أنطوان بطرس - الإمبراطورية المرنة 4/4
كان منشأ هذه القبيلة سهول سنغاريا عى حدود صحراء غوبي ووجهة سيرها الجنوب فاخترقت ارمينيا وصولا الى آسيا الصغرى وبذلك دخلت مسرح التاريخ ولا تزال. على هذا المسرح كانت إمبراطوريات تحتضر مثل الإمبراطورية السلجوقية، واخرى في طور الإنهيار، مثل الإمبراطورية العربية، واخرى في مرحلة ضياع مثل الامبراطورية الرومانية الشرقية وعاصمتها بيزنطية. وكان الشغل الشاغل لهذه العاصمة الإتفاق على عدد الملائكة القادرين على الوقوف على رأس دبوس. 
وخلال ثلاث مئة سنة من وفاة سليمان شاه كانت الإمبراطورية العثمانية قد امتدت من البانيا على الشاطىء الادرياتيكي الى حدود فارس، ومن مصر الى القوقاز، وذلك بفضل سلسلة متعاقبة متتالية من السلاطين العظام كان اخرهم السلطان العاشر، سليمان القانوني والذي عرف بـ “متمم العدد التام”. ومن بعده تولى الحكم “سليم السكير” وبدأ تراجع الأمبراطورية حتى عصرنا الحديث. 
لا يستطيع التاريخ ان يمر بعهد سليمان القانوني اوالفاخر مرور الكرام. فقد دانت له كل من هنغاريا والقرم كمقاطعتين. ملوك اوروبا تهافتوا كسبا لوده حاملين الهدايا. جيوشه كانت تسد الطريق نحو الشرق. اسطوله كان يجوب المتوسط ويتحكم به بلا منازع، شمال افريقيا أقرت له بالزعامة . القسطنطينية دانت له بالطاعة وجعلها عاصمته. حاول مرة على الاقل إخضاع العالم كله لسيطرته. عام 1580 دق ابواب فيينا وأمسك بخناق العالم المسيحي كله. وكان الجيش العثماني اكبر جيوش اورويا وكانت العاصمة اسطنبول خمسة اضعاف مساحة باريس. وقد أمسك العثمانيون بزعامة العالم الإسلامي وألقوا بظلالهم على اوروبا. 
لقد تحولت الامبراطورية الى دولة عسكرية مهيئة للفتح والحروب المقدسة. وبحلول العام 1520 اصبحت الامبراطورية مكتفية ذاتيا بالغذاء والمعادن والاراضي. جيشه كان nulli secondus أي “ لايسبقه أحد” وكان قوامه 87000 خيال و 16000 انكشاري يعتبرون نواة القوة العثمانية مهمتهم شن الحروب. والوقائع ان تركيا العثمانية كانت في حرب دائمة. وكان السلطان يتمتع بسلطة لا نهاية لها و التهديد الوحيد لسلطته كان يمكن ان يأتي من ذوي القربى. وقد شكلت تركيا تحديا للغرب وعاملا اساسيا في جعل الدول الأوروبية الغربية الدافع الرئيسي لقيام الثورة العسكرية في دول الغرب. 
كان للحكم العثماني تأثير كبير على جميع قطاعات المجتمع البلقاني. فقد تم القضاء على معظم الطبقة الارستقراطية ومن تبقى منها امتصتها الطبقة الحاكمة اثر استيلاء السلطان على املاكها. وعومل الفلاحون البلقان بطريقة افضل مما كانوا عليه قبلا رغم انهم كانوا يسددون الضرائب ويعملون في الأراضي ويخضعون للخدمة العسكرية. ولم تسعَ السلطات العثمانية الى اجبار اهل البلقان على التخلي عن ثقافاتهم وتبديل دينهم كما كانت العادة في تلك الازمنة. وسمحت لهم بالحفاظ عل عقيدتهم كما وسمحت لهم بالزواج المختلط. ويعتقد بعض اساتذة التاريخ ان هذه السياسة هي التي اطالت الحكم العثماني للبلقان مدة 400 سنة. كانت هذه تعبيرا عن “سياسة التخوم” (راجع الحلقة الأولى). 
كان شارل الخامس ملك اسبانيا الملقب بـ “الملك الأكثر كاثوليكية” وامبراطور الامبراطورية المقدسة قد خسر الكثير امام تصميم العثمانيين على شن حرب دينية ضد المسيحية وفشلت محاولته التصدى للعثمانيين في شمال افريقيا فخسر تونس والجزائر وقد اقرشارل بان التهديد التركي اجبره على وضعه جانبا المسائل الدينية واستغل الصراع العثماني - الفارسي وحقق انتصاره الوحيد على اللوثريين. وقد مدت فرنسا العون لسليمان لمواجهة جيوش آل هابسبورغ في فيينا. والواقع ان التوسع العثماني في اوروبا الغربية يعود إلى حد كبير الى الخلافات المسيحية - المسيحية في اوروبا. 
استولى الملك فرديناند على خمس مستعمرات في شمال افريقيا منها طرابلس والجزائر كما ضمن طرق اسبانيا البحرية بين صقلية وسردينيا وتونس. الا ان قيام العثمانيين ببناء اسطول بحري ضخم مكّنهم من الاستيلاء على مصر واعادة تهديد الممتلكات الاسبانية. وبانضمام بربروسا الى الاسطول العثماني خسرت اسبانيا تونس والجزائر نهائيا واصبحت الاتصالات الاسبانية بكل من ميلان ونابولي وصقلية غير ممكنة. وحينما قرر فيليب الثاني ملك اسبانيا مواجهة السلطان سليمان انتهت مغامرته بخسارة 27 سفينة وعشرة الاف أسير نقلوا الى اسطنبول للبيع في سوق النخاسة.  
وباتت المواجهة النهائية حتمية بين العثمانيين والاوروبيين. وكان مسرح القتال المنازلة البحرية في ليبانتو (خليج كورنثيا اليونان) (عام 1571) بين اكبر قوتين بحريتين في تلك الازمنة وكانت الغلبة للمسيحيين الذين خسروا 10 سفن من أصل 208 سفن و15000 بحار. بالمقابل، خسر الاتراك 117 سفينة من أصل 270 سفينة وإغراق 113 أخرى ومقتل 30000 بحار. وكانت تلك أكبر خسارة يمنون بها الأتراك منذ 1902. 
ويعتبر معظم المؤرخين ان هذه المعركة كانت بداية الانحسار العالمي لتركيا. ولكن الارشيف التركي لا يشير إلى شيء من هذا القبيل. والواقع فإن رد فعل السلطان كان بناء أسطول جديد وخلال 6 أشر فقط من هزيمة ليبانتو كان الاتراك قد بنوا 200 سفينة جديدة واستولوا على قبرص ثم تونس واجبروا الحامية الاسبانية على الفرار. وبموت سليمان مات آخر سلطان يتمتع بالكفاءة طوال قرن كامل. فقد تم انقاذ اوروبا الغربية بفارق شعرة.

اترك تعليقا