أنطوان بطرس - الإمبراطورية المرنة(2)-عقيدة الغزو وسياسة القضم تدفع بآل عثمان إلى الهيمنة
يزخر التاريخ بالصفحات عن الزعيم المسيحي البيزنطي كوزي ميهال (Kose Mihal ميخائيل حليق الذقن) الذي كان يرافق “عثمان الغازي” في غزواته، أفلا يعتبر ذلك دليلا على الإندماج الإسلامي البيزنطي؟ وعلى الرغم من أن بعض المؤرخين الأتراك مثل (Inalcik) إينالتشيك لم يجدوا اية وثائق تثبت انضمام ميخائيل إلى الاسلام قبيل عهد السلطان عثمان (1299-1324) إلا ان التاريخ الرسمي للعثمانيين يعتبره قد اسلم. فما هي العوامل التي دفعت بشعب مسيحي يوناني (البيثينيون (Bithynians))، سبق له أن أسس إمبرطورية تخوم استمرت 50 عاماً شمال البحر الأسود، أن يساهم في تأسيس دولة واحدة مسيحية - إسلامية؟
عام 1982 نشر إنالتشك مقالاً أقر فيه بأهمية الهجرة الجماعية للقبائل التركمانية نحو الأناضول أبرز فيه أهمية عقيدة الحرب المقدسة بصفتها القوة الموحدة “التي دفعت العصابات الغازية المرتزقة إلى احتلال المجموعات البشرية الفطرية واستعبادها” وبالتالي فقد تبنى المسلّمة بان “الغزو” وفر المبرر للنمو العثماني. ويعتقد ان قصائد الشاعر تاج الدين أحمدي، أكبر شعراء القرن الرابع عشر، كانت ذا تأثير كبير على إيقاع المرحلة .
ولكن كيف يفسر اينالتشك دخول مخائيل الإسلام في حين أن العثمانيين كانوا آنذاك امبراطورية تخومية امتازت بمعاملتها جميع الاعراق بالمساواة؟ تفسير ذلك يفترض ان اينالتشك اعتبر ميخائيل كان “غازيا” ومسيحيا في آن، وان الحرب المقدسة والاستيطان كانا العنصرين الديناميين في الفتوحات العثمانية وان النظم الادارية التي جرى تبنيها في الاراضي المحتلة الجديدة مستوحاة من النموذج السلجوقي. هذا التصور كان بالنهاية بمثابة طلاق بين عميد الدراسات العثمانية انالتشيك واعمال جيبونز التي تعتمد فرضية الطبيعة اللاتركية لأركان الأمبراطورية العثمانية .
ظهر نقد إضافي لجيبونز عام 1947 في دراسة مطولة للباحث اليوناني جورج ارناكيس (George Arnakis) الذي وجه نقده لنقاط الضعف في طروحات ويتك. ورأى ان قراءة مفهوم “الغازي” بهذا الشكل هو تضمين يجب ألاّ يفهم منه ان العثمانيين الاوائل كانوا مندفعين إلى أسلمة المسيحيين، وإنما سعياً وراء المغانم والنهب والاستعباد، ورأى ارناكيس أن النمو الذي شهدته الدولة العثمانية في وقت مبكر مرتبط إلى حد كبير بنجاحها في استيعاب شعب بثينيا اليونان.
على الجانب الآخر صدر كتاب ماركسي النزعة متخصص بفترة أوائل التاريخ العثماني وضعه ارنست فيرنر (Ernst Werner). صدر الكتاب عام 1966 ثم تلته طبعتان أخريان في العامين 1972 و 1985 مع تعديلات عديدة في كل طبعة تناول فيها بالنقد عملية التأريخ في تركيا. ولكن غلو هذا الكتاب في ماركسيته - اللينينية حال دون أي تأثير له. صل استثناء على يد الأميركي، يوناني المولد، سبيروس فريونيس (Speros Vryonis) الخبير في التاريخ البيزنطي والذي يعتبر كتابه The Decline of Medieval من المعالم التاريخية في المسألة العثمانية. في هذا الكتاب عكف فريونيس على تحليل مجموعة متنوعة من التقاليد الثقافية البيزنطية والإسلامية التركية، ولفت النظر إلى حقيقة هامة وهي انه في الوقت الذي نشأ فيه العثمانيون فإن عملية الأسلمة متبوعة بالتتريك كانت تتقدم لما يقل عن مئتي عام. واضاف ان طراز الحياة التركية نصف البدوية كانت مثالية في ملاءمتها لعمليات “الغزو” والإغارة، وإن هذه الحقيقة، لا الحماس للإسلام، كانت الحافز وراء الفتوحات العثمانية الأولى.
في الحلقة الثالثة: “روحية الغزو” دليل لفهم السياسات التركية الإقليمية.
اترك تعليقا