جنازة وطن
صباح ملكة العتابا والميجانا وقلوب الآلاف في العالم العربي انطفأت بصمت وسكينة في غرفة صغيرة في فندق متواضع بعيدًا عن صخب الشهرة والأضواء ومجد الأيام الغابرة.
سعيد عقل عبقري عجن اللغة وداعب الكلمة العربية فحلّق بها بريشة نسر، تنافس بعد رحيله محبّوه وقرّاؤه ومن عرفه ومن لم يعرفه على رثائه والثناء على عطاءاته، فلم يكتفوا بشاعريته العذبة بل أضفوا عليه ألقاباً ومسميات، وكأنّنا ننتظر أن يخطفهم القدر لنصحى من غيبوبتنا فتأتي الصحوة مزيّفة ومبالغ فيها ترتقي بهم إلى مكانة قريبة من الآلهة هم نفسهم ما كانوا ليرتضوها لو كانوا على قيد الحياة.
لقد ضاق البلد بهم.
نصري شمس الدين توفّاه الله وحيداً في منزل والده في جون من دون تدفئة أو دفء.
زكي ناصيف كان يبحث عن رفيق يسامره وهو يرتشف قهوته في السيتي كافيه قبل أن يرحل فيغلق المقهى أبوابه هو الآخر.
وديع الصافي إضطرّ أن يُذكّر الناس أنه موجود.
جورج جرداق: من يعرفه أو يذكره؟
وقبلهم فيلمون وهبي وشوشو.
لعلّ عاصي الرحباني أشّر إلى نهاية زمن السخاء الإنتاجي والثقافي حين غادر في العام 1986، لتكتمل الصورة البائسة مع أنسي الحاج في العام 2014 إذ كتب قبل غيابه “من لا يتعامل بفساد مع مجتمع فاسد يبدو للآخرين حاملَ وباء ويبدو لنفسه معتوهًا. التكيّف مع السوء موهبة؟ لا، بل وراثة. بعض الأدمغة عُطبت، بعضها انحرف، وبعضها انفجر، وبعضها اختنق من المشهد.
ولقد أحسن أبو سليم (صلاح التيزاني) حين تساءل لماذا لا نعلن يوم وفاتهم يوم حداد رسمي؟
والجواب، طبعاً، لأنهم ليسوا من زعماء الطوائف فنحن لا نعظّم ولا نكّرم إلا جلاّدينا.
حثّ رحيل صباح الدولة على إعلان الرعاية الصحية الشاملة للفنانين في لبنان، ويبقى أن نرى ما إذا كان المواطن اللبناني سيحظى يومًا ما بالمثل. ترى لماذا لا نتذكّر كبارنا ولا نزورهم إلاّ حين يتوفّون؟ لماذا كلّ هذا الهراء عن حبّنا وفقداننا لهم نحن الذين لم نسأل عن حالهم مرة واحدة؟ في كانون الأول 2014 انتحر حسن اسماعيل وهو المقاوم الذي نساه حزبه ومقاومته، من يعرفه؟
سطحيون نحن و“كلاميون” فقط. لا نعرف ولا نقدّر من تميّز فنّاً وفكراً وصناعةّ ومن رفع رؤوسنا عاليةً! ولا نعرف كيف نحبّ بعضنا بعضًا. لذا تراهم ينزوون ويذوبون، فلقد رحلوا منذ زمن ورحل معهم الزمن الجميل. نحن أمة لا تقرأ ولا تطالع ولولا فيروز وأغانيها لما عرف أي منا شعر سعيد عقل.
نعم، لقد ضاق البلد بهم وضاق بالكلمة الجميلة والنغم الجميل والشعر الجميل والفكر الجميل والأحلام الجميلة. ومن منا لا يتذكر خليل حاوي في قصيدته:
“يعبرون الجسر في الصبح خفافا أضلعي امتدت لهم جسراً وطيد”
ألم يعبر هو أيضاً فانتحر حين احتلت إسرائيل بيروت؟ هل يعلم أولادنا أن هذا الشاعر الكبير انتحر لأن قلبه لم يحتمل إسرائيل في بيروت؟ وقبلها قال:
“أغمضتَ عينيك على رماد أغمضتَ عينيك على سواد”
قالتها صباح على طريقتها:
“ قايمي ضب تيابي...”
ليتوقف هذا الفولكلور التافه من الحزن الكاذب، أما “نحن” فقد حزمنا أمتعتنا منذ زمن قبل ومع صباح وفي كل صباح! إنها جنازة وطن!
بعد مسيرة حافلةٍ شاطرت خلالها قصة عشقها الأزلي للحياة والحب والفرح مع الأجيال المتعاقبة، توفّت المغنيّة صباح، إحدى أعمدة الموسيقى والتمثيل في لبنان. في اللغة العربية، الصباح يعني بزوغ الفجر والحقّ أن صباح كانت اسمًا على مسمى فهي كانت صباحًا خيّراً ومشرقًا على العرب كافّةً. شأنها شأن أوليسيس في شعر تنيسون، لم تسترح يومًا من عناء السفر وشربت خمرة الحياة حتى الثمالة.
ماتت صباح
العُربُ كانوا في سباتٍ استعماريٍّ طويل
أشرقت “صباحُ” توقظهم على فجرٍ جميل
وتبدل دمعهم بضحكةٍ وشقاءَ كبوتهم تُزيل
غنّت فتشابكت أيدٍ في “دبكةٍ” لألف ميلٍ وميل
وحين صباحُنا بصوتها صدحت
التمعت أهلّةٌ وأجراسُ قُرِعت
وحلّقت موسيقاها بأجنحةٍ من ضياء
تصلُ بالاحتفال النهارَ بالمساء
ماتت “صباحُ” ومات الصباح
جُنحُ الضياء مزّقته الرياح
فاتّشح الصبحُ بالسواد
وغمر الدمعُ أوجهَ العباد
ولحنُ الحزن عمّ البلاد
أشرقت صباحُ العُربِ لسنواتٍ عديدة
أما وقد رحلت، ستبقى الشمس وحيدة
حنا سعاده
ترجمة باسل منذر
سعيد عقل عبقري عجن اللغة وداعب الكلمة العربية فحلّق بها بريشة نسر، تنافس بعد رحيله محبّوه وقرّاؤه ومن عرفه ومن لم يعرفه على رثائه والثناء على عطاءاته، فلم يكتفوا بشاعريته العذبة بل أضفوا عليه ألقاباً ومسميات، وكأنّنا ننتظر أن يخطفهم القدر لنصحى من غيبوبتنا فتأتي الصحوة مزيّفة ومبالغ فيها ترتقي بهم إلى مكانة قريبة من الآلهة هم نفسهم ما كانوا ليرتضوها لو كانوا على قيد الحياة.
لقد ضاق البلد بهم.
نصري شمس الدين توفّاه الله وحيداً في منزل والده في جون من دون تدفئة أو دفء.
زكي ناصيف كان يبحث عن رفيق يسامره وهو يرتشف قهوته في السيتي كافيه قبل أن يرحل فيغلق المقهى أبوابه هو الآخر.
وديع الصافي إضطرّ أن يُذكّر الناس أنه موجود.
جورج جرداق: من يعرفه أو يذكره؟
وقبلهم فيلمون وهبي وشوشو.
لعلّ عاصي الرحباني أشّر إلى نهاية زمن السخاء الإنتاجي والثقافي حين غادر في العام 1986، لتكتمل الصورة البائسة مع أنسي الحاج في العام 2014 إذ كتب قبل غيابه “من لا يتعامل بفساد مع مجتمع فاسد يبدو للآخرين حاملَ وباء ويبدو لنفسه معتوهًا. التكيّف مع السوء موهبة؟ لا، بل وراثة. بعض الأدمغة عُطبت، بعضها انحرف، وبعضها انفجر، وبعضها اختنق من المشهد.
ولقد أحسن أبو سليم (صلاح التيزاني) حين تساءل لماذا لا نعلن يوم وفاتهم يوم حداد رسمي؟
والجواب، طبعاً، لأنهم ليسوا من زعماء الطوائف فنحن لا نعظّم ولا نكّرم إلا جلاّدينا.
حثّ رحيل صباح الدولة على إعلان الرعاية الصحية الشاملة للفنانين في لبنان، ويبقى أن نرى ما إذا كان المواطن اللبناني سيحظى يومًا ما بالمثل. ترى لماذا لا نتذكّر كبارنا ولا نزورهم إلاّ حين يتوفّون؟ لماذا كلّ هذا الهراء عن حبّنا وفقداننا لهم نحن الذين لم نسأل عن حالهم مرة واحدة؟ في كانون الأول 2014 انتحر حسن اسماعيل وهو المقاوم الذي نساه حزبه ومقاومته، من يعرفه؟
سطحيون نحن و“كلاميون” فقط. لا نعرف ولا نقدّر من تميّز فنّاً وفكراً وصناعةّ ومن رفع رؤوسنا عاليةً! ولا نعرف كيف نحبّ بعضنا بعضًا. لذا تراهم ينزوون ويذوبون، فلقد رحلوا منذ زمن ورحل معهم الزمن الجميل. نحن أمة لا تقرأ ولا تطالع ولولا فيروز وأغانيها لما عرف أي منا شعر سعيد عقل.
نعم، لقد ضاق البلد بهم وضاق بالكلمة الجميلة والنغم الجميل والشعر الجميل والفكر الجميل والأحلام الجميلة. ومن منا لا يتذكر خليل حاوي في قصيدته:
“يعبرون الجسر في الصبح خفافا أضلعي امتدت لهم جسراً وطيد”
ألم يعبر هو أيضاً فانتحر حين احتلت إسرائيل بيروت؟ هل يعلم أولادنا أن هذا الشاعر الكبير انتحر لأن قلبه لم يحتمل إسرائيل في بيروت؟ وقبلها قال:
“أغمضتَ عينيك على رماد أغمضتَ عينيك على سواد”
قالتها صباح على طريقتها:
“ قايمي ضب تيابي...”
ليتوقف هذا الفولكلور التافه من الحزن الكاذب، أما “نحن” فقد حزمنا أمتعتنا منذ زمن قبل ومع صباح وفي كل صباح! إنها جنازة وطن!
بعد مسيرة حافلةٍ شاطرت خلالها قصة عشقها الأزلي للحياة والحب والفرح مع الأجيال المتعاقبة، توفّت المغنيّة صباح، إحدى أعمدة الموسيقى والتمثيل في لبنان. في اللغة العربية، الصباح يعني بزوغ الفجر والحقّ أن صباح كانت اسمًا على مسمى فهي كانت صباحًا خيّراً ومشرقًا على العرب كافّةً. شأنها شأن أوليسيس في شعر تنيسون، لم تسترح يومًا من عناء السفر وشربت خمرة الحياة حتى الثمالة.
ماتت صباح
العُربُ كانوا في سباتٍ استعماريٍّ طويل
أشرقت “صباحُ” توقظهم على فجرٍ جميل
وتبدل دمعهم بضحكةٍ وشقاءَ كبوتهم تُزيل
غنّت فتشابكت أيدٍ في “دبكةٍ” لألف ميلٍ وميل
وحين صباحُنا بصوتها صدحت
التمعت أهلّةٌ وأجراسُ قُرِعت
وحلّقت موسيقاها بأجنحةٍ من ضياء
تصلُ بالاحتفال النهارَ بالمساء
ماتت “صباحُ” ومات الصباح
جُنحُ الضياء مزّقته الرياح
فاتّشح الصبحُ بالسواد
وغمر الدمعُ أوجهَ العباد
ولحنُ الحزن عمّ البلاد
أشرقت صباحُ العُربِ لسنواتٍ عديدة
أما وقد رحلت، ستبقى الشمس وحيدة
حنا سعاده
ترجمة باسل منذر
اترك تعليقا