أنطوان بطرس - الإمبراطورية المرنة(1)
وبحسب التأريخ العثماني فانه بعيد احتلال القسطنطينية عام 1453 ركّز السلاطين على مشروعهم المركزي والذي ادى في القرن التالي الى تأسيس مفهوم كلاسيكي لدولة عثمانية بحكومتها المركزية واوقافها. قد بلغت الحكومة العثمانية في اسطنبول حد الكمال خلال هذه المرحلة.
ويُنظر الى الفترة الممتدة بين 1300-1700 كفترة توسع مسستمر أدت الى تكوين البنى الإقتصادية والاجتماعية والهيمنة العسكرية. وحققت حكومة اسطنبول كمالها الاداري بدمجها التخوم بالنظام الأمبراطوري وزيادة سيطرتها على المقاطعات النائية أيا كان بُعدها..
عام 1916 نشر هربرت أدامس جيبونز (Herbert Adams Gibbons) مؤلفه “أركان الإمبراطورية العثمانية”. وكان جيبونز صحافيا أميركيا انتهى محاضرا في الشؤون الدولية واكاديميا مرموقا، قال فيه العثمانيين كانوا بالحقيقة “عرقا” جديدا تشكل من يونان وبلقان وسلاف ممن اعتنقوا الإسلام وامتزجو بالأتراك. وقد نما هذا المزيج لأن هذا “العرق” الجديد ضمن استمرار الممارسات الادارية البيزنطية تحت غطاء اسلامي. بمعنى انه لما كان العثمانيون ورثة التقاليد والممارسات البيزنطية فقد استمروا حتى الفتح العربي في مطلع القرن السادس عشر بصفتهم مزيجا اسلاميا - بيزنطيا. وكان يرى ضمنا ان الامبراطورية العثمانية القوية لم تكن لتستطيع ان تبرز من جذور تركية - اسلامية بحتة لولا أصولها البيزنطية - المسيحية، وقد حتم انتصارها كون جذورها تنتمي الى عرق متفوق امتزج فيه “الدم الأسيوي الحار” بـ “السلالة الأوروبية”- و تتحدران اداريا من نسب خطي بيزنطي .
جاء الرد العثماني على هذه الطروحات من قبل الباحث التركي فؤاد كوبرولو في دراسة مطولة نشرت عام 1922 رفض فيها بصورة خاصة الافتراض بوجود اصول بيزنطية لللإدارة العثمانية، وبين المدى الذي اعتمد فيه العثمانيون على جذورهم المؤسساتية المستمدة من السلاجقة و الإلخانات ورافضا بذلك مقولة ان العثمانيين لم يكونوا مؤهلين لصنع دولة. وبعد عامين، في 1924، نشر العالم الألماني فردريش غيزه (Friedrich Giese) رده في دراسة هامة لفت فيها اهمية وجود وجود سابق لإتحاد للحرفيين والتجار في بلاد الأناضول وانتقاله الى الكيان العثماني.
في التاريخ العثماني فإن “أطروحة الغزو” اصبحت، بدورها واحدة من المفاهيم الأكثر ثباتا وتجددا منذ نشرها عام 1938 على يد المستشرق الألماني بول ويتك (Paul Wittek). في مضمونها، فإن هذه النظرية لا تعتبر العثمانيين قبيلة او شعبا مترابط بسلسلة النسب، وانما مجرد مجموعات من مسلمي الاناضول تربطهم النية المشتركة لمحاربة المسيحيين الكفار في الجوار. وبمرور الزمن نمت قوة حرس التخوم وشكلت مجتمعا خاصا مكنهم بالنهاية من الهيمنة على بيزنطية السابقة والتخوم السلجوقية. بدورها فإن هذه المقولة التي نظرت الى العثمانيين على انهم مجموعة محاربين هدفهم محاربة الكفار بسلسلة غزوات في شمال غرب الاتاضول وتحويلهم الى الإسلام، سيطرت على المفكرين والدارسين الغربيين (في الوقت الذي رفضها الترك بالكامل). ولكن وبالرغم من الإنتقادات التي وجهت لهذه النظرية فإن الإيحاء بالتوسع المرن و المستمر بقصد غزو التخوم سعا وراء الإستقرار لا يزل يمارس تأثيرا على المفاهيم العامة للتاريخ العثماني فكرا وثقافة وممارسة.
سيطرت نظرية “الغازي” على الفكر الغربي رغم رفضها و تجاهلها في تركيا طوال السنوات الاربعين التالية. يستثنى من ذلك عميد الدراسات العثمانية هليل اينالتشك الذي قبل بالنظرية بالكامل في مؤلفاته. ففي الوقت الذي وافق فيه على ان الولاية الحدودية الصغيرة (عثمان غازي) مكرسة للحرب المقدسة ضد بيزنطية المسيحية وموافقته على ان الحرب المقدسة كانت عاملا بالغ الاهمية في بناء وتطوير الدولة العثمانية، فإنه لم ينف، على غرار كوبرولو وخلافا لـ “وتك”، الاصول القبلية للعثمانيين. ورأى ان هناك خلفية مشتركة للقوى الحدودية البيزنطية والغزاة ادت الى الانصهار وبالتالي الى امبراطورية حدودية حقيقية ودولة كوزموبوليتانية تعامل شعوبها كعرق واحد وتوحّد المسيحيين البلقان الارثوذكس في دولة واحدة.
السؤال ما الذي أدى الى وحدة مسيحيي البلقان الأرثوذكس مع الاناضول المسلمة في دولة واحدة؟
هذا ما نجيب عليه في العدد القادم.
اترك تعليقا